مايو 21، 2011

هيكل، صانعا للملوك


"لايمكن النظر للأستاذ هيكل على أنه كاتب ذو قيمة نظرية"


 حكى الأستاذ هيكل أنه تلقى دعوة من المرحوم رفيق الحريري على يخته في البحر المتوسط، وهناك قدم له الحريري رجلا في ضيافته وهو يقول لهيكل: فلان، رئيس لبنان المقبل. وتعرف هيكل في الشخص على رجل مخابرات كان قد سمع به، ويحكي هيكل انطباعاته عن هذه الحادثة وهو يلاحظ ساخرا أن هذا الرجل، الحريري، الطموح الى لعب دور سياسي في بلاده، بدا له كصانع للملوك، وهو رجل بالغ الثراء، وبالغ الطموح، ومتواضع الثقافة، والمعرفة السياسية، ويتحدث بهذه الخفة والثقة عن رئيس للبنان يخرجه من جيبه ويقدمه لضيوفه بهذه الطريقة. وبالطبع لم يسجل التاريخ اللاحق أن مرشح الحريري قد أصبح رئيسا للبنان ولا لأي بلدية فيها.
واليوم يفاجئنا الأستاذ هيكل باقتراح مشئوم، يمكن أن يكون له لو تحقق، تداعيات بالغة السوء على مستقبل مصر المنظور، اذ يقترح أن يتولى المشير طنطاوي مهمة رئاسة الدولة في المرحلة الانتقالية.
وقد سبق أن لعب الأستاذ هيكل دورا حاسما عام 1970، فتح الطريق الذي بدا مسدودا أمام أنور السادات، ليصبح رئيسا للجمهورية، وليخلف عبد الناصر، ولينتهي بنا السادات الى كامب دافيد، وتأسيس أركان جمهورية الفساد، والتلاعب بالدستور والقانون، واثارة الكراهية والتعصب الديني بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر، وتقديم مصر هدية مكبَّلة للولايات المتحدة والدولة الصهيونية، وفتح الطريق أمام الغوغاء باسم الدين، وتدشين اتجاهات في السياسة والسياسة الخارجية والاقتصاد والثقافة والقيم ألحقت أشد الضرر بمصر ومستقبلها، والسادات أيضا هو الذي ترك لنا حسني مبارك.
والأستاذ هيكل ليس مسئولا بالطبع عن الكوارث التي آل اليها حكم السادات، رغم أن ايضاحات هيكل لأسبابه في صناعتة للسادات ملكا، بدعمه في حسم صراعه مع من أسماهم هيكل "مراكز القوى" من رجال عبد الناصر، ودعمه بالمشورة وبالآلة الاعلامية الجبارة التي كان هيكل يملكها والتي قامت بتسويق السادات جماهيريا وتصنيع المنطق اللازم لقبول رجل لم يكن مقبولا بالمرة، ولم يكن أحد في مصر كلها يتصوره رئيسا، حتى أن نجيب محفوظ ذهب ليتحدث الى زوجته عن حيرته كيف يصبح هذا الأراجوز رئيسا لمصر، وقد اقتصرت ايضاحات هيكل لدوره على أنه كان يدعم الشرعية واستقرار الدولة بعد الغياب المفاجىء والمزلزل لجمال عبد الناصر، وفي ظروف الهزيمة العسكرية واحتلال سيناء.
والمشكلة مع هيكل هنا، هي اننا لانرى رأيه في أن المناداة بالسادات رئيسا، وبالطريقة التي تمت صناعته بها، كانت انتصارا للشرعية، فقد بدا ذلك كله في عام 1970 أقرب الى افتعال رئيس غير مقبول من الشعب، وتسويقه اعلاميا وجماهيريا، وخلق الاعتياد على وجوده، واستخدام مجمل الأدوات الديكتاتورية التي أبدعها وطورها النظام الناصري مثل ترشيح البرلمان، المشكوك دائما في شرعيته، لشخص واحد لمنصب الرئيس، ليتم اختياره بالاستفتاء، الذي يملك مفاتيحه وزير الداخلية.
أي أن هيكل كرَّس "شرعية" صناعة الديكتاتور العسكري البائس في لباس مدني وبايب وقتها، مهما حسنت نواياه.
وما كانت هذه هي الشرعية التي تليق بمصر في أي وقت من الأوقات، ولا الشرعية التي تحتاجها والتي تمكنها من مواجهة أزماتها المتعددة تاريخيا، بما في ذلك مقاومة العدو الذي غزا مصر واحتل أرضها، ودمر جيشها آنذاك.
لقد كان هيكل وقتها في أزمة اختيار بين شرَّيْن، رجال عبد الناصر وأنور السادات، على أرض استمرار النظام الديكتاتوري، وشرعية الديكتاتور، فاختار ماتصوَّر أنه أهون الشرين: أنور السادات.
وكان الواجب الوطني وقتها، وفي كل وقت، أن يُفتح الطريق أمام الدولة الديمقراطية الحديثة، لتقود مصر في ظروف الحرب وظروف السِلْم. أما نظام شرعية الديكتاتور، فقد أدى في حالة أنور السادات، الى تسليم السلطة لديكتاتور مغامر وجاهل، وشخصية تعاني من انحطاط ثقافي وقيمي ومن اضطراب نفسي.

ورغم أن هيكل كان سجينا عام 1981، لحظة اضطر أنور السادات لترك السلطة، فان النظام الذي وضع هيكل فَلْسَفَته، وهو مايسميه الشرعية، وانتقال السلطة في اطار  الشرعية، وهي كما رأينا شرعية زائفة، لأنها شرعية اصطناع ديكتاتور ليخلف ديكتاتورا، كان هو بحذافيره النظام والآلية التي خدمت حسني مبارك ليكون رئيسا لمصر هو الآخر. لقد أصابت بركات هيكل حسني مبارك، حتى وهو قابع في سجون سيده. لهذا، يجب أن يكون مبارك ممتنا لهيكل، بنفس قدر امتنانه لسيده.
وهكذا، فان الأستاذ هيكل، صنع لمصر في تاريخها الحديث مَلِكَيْن كارثيين. أحدهما مباشرة، والثاني بفضل القاعدة التي وضعها في عام ، 1970. والأستاذ بالقطع، لم يكن يعرف أنه يصنع كارثة، لكنه كان بالتأكيد يعرف أنه يكرس نظام الشرعية الزائفة للديكتاتور. وهذا بالتحديد ماتحتاج مصر الخلاص منه الى الأبد.
  وبعد 40 سنة أخرى، فان اقتراح الأستاذ المتعلق برئاسة مؤقتة للمشير طنطاوي، هو اقتراح كارثي، مهما كانت الأسباب والتبريرات. لقد قال هيكل في حديثه أنه لايجد حرجا في هذا الاقتراح، والواقع أنه يجب أن يجد فيه حرجا شديدا، وأن يتفهم الانتقاد الصارم الذي يوجه الى مثل هذه الأفكار، وهوانتقاد يصل الى حد اللوم بل والادانة مع شديد الأسف.
لايجب أبدا أن يأتي الجيش من تلقاء نفسه الى حلبة الصراعات السياسية الداخلية في مصر، يأتي الجيش فقط على أساس استدعاء من السلطة الشرعية الدستورية، ولمهمة محددة، وتوقيت محدد، أو على أساس استدعاء من الشعب في ظروف أزمة سياسية خاصة، وباحترام نفس الشروط، أي المهمة المحددة، والتوقيت المحدد.
ولو تحرك الجيش أو جزء منه خارج هذه الشروط، لوجبت مقاومته على الفور، بكل الوسائل، باعتباره يمارس عدوانا على حرية الشعب، وعلى طبيعة الحياة السياسية المدنية، وعلى الدستور، وعلى القانون.
والجيش لم يتم قبول انتشاره وتحركه الى داخل البلاد، على أساس تكليف مبارك المثير للسخرية، فمبارك لم يكن يملك سلطة شرعية دستورية، لافي يوم سقوطه، ولا في يوم توليه للسلطة بعد اغتيال سيده. وكذلك فان الشعب حين أطاح بمبارك، فهو قد حرمه من اصدار أي قرارات، اذ أصبح "رئيسا" معزولا، ممنوعا من اصدار قرارات، بل ومحروما من الحقوق السياسية العادية لأي مواطن، ومجرما مطلوبا للعدالة. 
اذن فان الشعب الثائر بالتحديد هو الذي استدعى الجيش. ولمهمتين محددتين، مؤقتتين، بالاضافة الى مهامه الدائمة كجيش وطني:
1 – أن يقمع المجرم عدو الشعب، حسني مبارك، وعصابته، وأن يحمي الشعب من عدوانهم، وأن يحمي اجراءات تقديمهم للعدالة، وأن يحمي اجراءات استرداد ممتلكات الشعب المنهوبة
2 – أن يحمي الأمن العام، بالمعنى الشامل، والمفهوم للأمن في الدول المدنية المحترمة في هذا العالم،
ولا أكثر
والغريب، أن المجلس العسكري قد اصطنع لنفسه دورا سياسيا ليس له، ونصب من نفسه سلطة للدولة، وأعطى لنفسه سلطات مطلقة، تشمل التشريع، واصدار الاعلانات الدستورية، واجراء الاستفتاءات، وتعيين الحكومة والوزراء، والسيطرة على أجهزة الدولة كلها بما فيها الاعلام، وتمثيل البلاد مع العالم ... الخ
وكل هذه السلطات لم يمنحها أحد للجيش. ولا يمكن أن تكون له في أي ظرف. فكلها غير شرعية. وكل مايترتب عليها باطل.

وبينما ركَّز المجلس العسكري على المهام والسلطات التي اصطنعها لنفسه، فقد قام بالتهاون واهدار المهمتين اللتين استدعاه من أجلهما الشعب، بل وأخذ ينزلق الى توجيه طاقة العنف ضد الثوار المسالمين وضد الشعب
واذن فنحن أمام شكل من أشكال الانقلاب العسكري، والاستيلاء على السلطة، يترأسه القائد العام للقوات المسلحة
فالمجلس العسكري قد أهمل المهام الموكولة اليه من الشعب، وقام بفرض سلطاته على البلاد، وعلى الحياة السياسية بأسرها، وعلى النظام السياسي الذي يريد المصريون خلقه في بلادهم
ولابد من اصلاح هذا الوضع على الفور
1 – أن توقف أي مهام سياسية للمجلس العسكري
2 – أن يتم عودة هذا المجلس الى وضعه قبل 25 يناير 2011 ، وبدون رئيسه المعزول – مبارك -  بالطبع 
3 – أن يعود القائد العام الى صفته ومنصبه السياسي كوزير للدفاع في الوزارة التي يرأسها الدكتور شرف، وتحت قيادة رئيس الوزراء، وأن تكون تلك الوزارة هي حكومة البلاد بكل الصلاحيات، مع تطهيرها من العناصر التي يرفضها الشعب الثائر، وتعيين وزراء وطنيين يرضاهم الشعب
4 – أن تلغى الاجراءات والقرارات التي اتخذها المجلس العسكري
5 – أن يلتزم الجيش بدوره المحدد في المرحلة الحالية ويتلخص في حماية الأمن العام، وألا يتدخل بأي شكل في الحياة السياسية
6 – أن تقوم الحكومة على الفور بترتيبات قيام جمعية تأسيسية بوضع دستور جديد للبلاد، وطرحه للاستفتاء، وطرح القوانين الجديدة المكملة التي يتم اعدادها، للاستفتاء في نفس الوقت، مع الغاء القوانين السابقة، والقوانين التي أصدرها المجلس العسكري
7 – أن تقوم الحكومة باعداد وطرح مشروع اعادة هيكلة الأجور على مستوى الدولة
8 – تشكيل لجنة اقتصادية من الاقتصاديين الوطنيين لتقديم خطة عاجلة لتجاوز الوضع الاقتصادي الراهن
9 – تقوم الحكومة بمتابعة الاجراءات الضرورية لقمع عصابات النظام الساقط وتقديمهم للعدالة، ابتداء برأس النظام السابق وحتى أعوانه في أمن الدولة، والاعلام، والجامعات، والمحليات، وجهاز الدولة
لن يصنع أحد ملوكا من جديد في مصر
لكننا سنبني جمهورية ديمقراطية حديثة في بلادنا
هذه لحظة اختبار للجميع
فللنهض بثبات من أجل انقاذ الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق