أبريل 25، 2011

قنا

قنا

في 24 ابريل في جريدة المصري اليوم كتب كل من الدكتور محمد ابو الغار والدكتور مصطفى النجار في نفس الموضوع الذي يثير قلقا وطنيا متزايدا حول تصاعد مقاومة شعب قنا لاستخدام المجلس العسكري نفس أساليب التسلط المركزي القديمة، وفرض حكام للأقاليم دون أدنى اكتراث برغبات الأهالي.

وقنا تبعد عن القاهرة بنحو 600 كم، وعدد سكانها نحو 2.7 مليون قنائى. ولقنا تاريخ وطني في مقاومة الغزاة، ففي عصر مصر القبطية كانت معقلا للمقاومة ضد الامبراطورية الرومانية وقدمت طوابير من شهداء المسيحية الوطنية المصرية، وفي 3 مارس 1799 قام شعب قنا في نجع البارود بمقاومة جيش نابليون بونابرت وأبادوا قوة قوامها 500 فرنسي عن آخرها، ومنعوا تقدم الغزو الفرنسي لمصر. 

وقد افترض الدكتور محمد أبو الغار أن مايجري في قنا هو جريمة كراهية وتعصب ديني اقترنت بعدوان على المرافق والممتلكات العامة، واعتدت على هيبة الدولة، وأنها تشكل امتدادا لجملة من جرائم الكراهية مثل هدم كنيسة قرية صول، وقطع أذن مدرس قبطي، ولام المجلس العسكري اذ لم يتخذ اجراءات حازمة وعاجلة في اطار القانون.

أما النجار، فقد سافر الى قنا وأرسل الينا الجزء الأول من شهادته في موقع الحدث، ومنه نستنتج أن مايجري في قنا هو من توابع الزلزال الثوري في شمال مصر، والذي لم يمتد الى الجنوب في حينه، وقد قدمت شهادة النجار مايمكن أن يكون تفسيرا جزئيا لتخلف قنا – وربما الصعيد عموما – عن اللحاق بالمد الثوري في الشمال وهو في أوج اندفاعه، فقد قامت سطوة ميلشيا الحزب الوطني من البلطجية المسلحين بما عجزت عنه قوات وقناصة وبلطجية مبارك وحبيب العادلي في مدن الشمال، فتمكنوا من ارهاب الشعب في قنا تحت تهديد السلاح، وأمكنهم فعليا اجهاض أي حشد جماهيري على نطاق واسع.

لقد لاحظنا مبكرا خلال انفجار الثورة أن الصعيد، والريف في عموم مصر، كانا يثيران التساؤل في أذهاننا: أين الصعيد؟ وأين الفلاحون؟ بل أثير أيضا التساؤل: أين الطبقة العاملة المصرية في المناطق الصناعية الضخمة؟

وقد حدث أن قطاعات عريضة من الطبقة العاملة الصناعية المصرية قد انضمت للثورة في الأيام الأخيرة قبل سقوط الديكتاتور، وكانت هذه الرسالة بليغة لدى من يهمهم الأمر، ونظن أنها كانت من أقوى العوامل التي دفعت بالمجلس العسكري أن يحسم أمره ويذهب لاقناع الديكتاتور أن يرحل.

ومنذ ذلك الحين جرت في النهر مياه كثيرة، فقد توالت الضربات التي فرضتها قوى الثورة في الشمال، وتوصلت الى حل الحزب الوطني ومصادرة أمواله ومقراته، كما تساقط كالذباب رجال مبارك في قبضة العدالة بأحط التهم، الى أن سقط مبارك نفسه ووولداه في يد العدالة سقوط المجرمين الذين لامهرب لهم.

ليس للثورة شكل واحد. فنموذج النضال السلمي الواسع لجماهير المدن كان الالهام التونسي للمصريين، خصوصا وقد أثبت هذا الشكل للنضال فعاليته، فهو الذي اقتنص اول جائزة حقيقية للشعوب من مخالب حكامها الفاسدين في وطننا العربي المنكود، الذي يجلله تاريخ طويل من القمع والفساد وفشل الجماهير والنخب. لقد هرب بن علي. مئات المرات كنا ندير فيديو ذلك المحامي التونسي الباسل الذى خرج وحيدا في شوارع عاصمته الجميلة المقفرة، والتي ازدادت جمالا،  ليهدي الانسانية هذا الشدو والنبأ الرهيب: بن علي هرب! فلتسعد الانسانية، ولتعد الشعوب النظر في نفسها، وتكتشف قواها الجبارة. كان نداء مسكرا، مليئا بالوعد: بن علي هرب! تلقفته القاهرة والاسكندرية والسويس ومدن طيبة أخرى في وطننا، لتنهض من التابوت، وتدمج الملايين في ثورة سلمية، تحقق نصرا فريدا، يمجد الانسان في كل العصور.

ميدان التحرير، تملؤه تلك الكتلة العبقرية من العقول والدماء والحياة والارادة والانسانية. تحتل الميدان حتى الموت أو النصر. فديكتاتورية مركزية دموية غاشمة سوداء وظلامية الى هذا الحد، اقتضت من أجل اقتلاعها كتلة مركزية جبارة من البشر الى هذا الحد. حين ننظر الى الصورة الشهيرة لميدان التحرير وقد أصبح مجرة من البشر، تحتكر براءة اختراع مصرية في تاريخ النضال الانساني، يبدو لنا المشهد فريدا ولاسابق له، ويشبه صور المجرة، وأساطير الخلق، أو حسب التعبير الجميل لهيكل العجوز وهو دامع العين، متهدج الصوت: رأيت مولد النجوم. نعم أيها الشيخ العزيز، هذا مولد النجوم، وسر مصر في قدرة الخلق الأبدي. فمصر لاتموت.

وفكرة الثورة وروحها لاتحل في العقول والأجساد في وقت واحد، كما أن البشر مختلفون، وظروف حياتهم مختلفة. لكن مصيرهم جميعا أن يثوروا، فهذا قدر مصري في هذا الزمن. من هذا الاختلاف في التوقيت، والاختلاف في الظروف تختلف أشكال ثورة الجموع وزمنها. هناك فكرة ثورية وروح ثورية دبت في هذا المجتمع الذي كان يبدو كجثة في طريقها الى التحلل.

فعلى سبيل المثال، بينما اتجهت كتلة تاريخية من الشعب الى ميدان التحرير واحتلته، واكتشفت أن عليها أن تستمر وأن تجتذب الجميع الى هنا وتحشدهم حتى الموت أو النصر، اتجهت في صمت وفي تصميم وفي نفس الوقت كتل هائلة أخرى الى أماكن محددة تعرفها جيدا لتدمرها جميعا. درج المتحدثون من البوليس وغيره أن يصفوا هذه الكتل التي هاجمت مقرات البوليس ودمرتها على أنها من البلطجية. ونحن لانظن هذا. فالبلطجية في زمن السادات – منذ رشاد عثمان – وفي زمن مبارك، أصبحوا من أحباب جهاز الدولة، أصبحوا موظفين لدى رجال الحزب والمال والبوليس. ولا أظن أن الكتلة السكانية من هذه الحثالة التي ظلت خارج نعيم أجهزة مبارك ورجاله هي كتلة كبيرة بأي شكل. كان العمل والرزق بالنسبة اليهم وفيرا في جمهورية البلطجة المصرية التي حقق مبارك كمالها. بالطبع هناك ممن أصبحوا من محترفي الجريمة أعداد لم تصبها بركة جمهورية البلطجة، وأصابتها فظاعة زبانية المباحث والبوليس والنيابة والقضاء ومصلحة السجون والمجتمع نفسه، ولهؤلاء ثأر تقليدي مع جلاديهم، لكني أظن أن الكتلة الأساسية ممن هاجموا ودمروا مقرات البوليس لم تكن من محترفي الجريمة، فمن كانوا اذن؟ لقد كانوا ممن وقعوا ضحايا جرائم البوليس الفظيعة على مدى الزمن. كم خالد سعيد شهدت مصر في العقود الماضية؟ كم من الناس سجنوا ظلما وعذبوا في جرائم لم يرتكبوها؟ السجل حافل. وجهاز البوليس في مصر هو الجهاز الذي يشعر المصريون العاديون ازاءه  بأشد مشاعر الكراهية. فما بالنا بضحاياه الأبرياء الذين يعدون بالملايين؟

رأينا شكلا سلميا للثورة في كتلة ميدان التحرير، وشكلا عنيفا للكتل التي ذهبت لتعاقب البوليس وتطلب ثأرها. وحجم الدمار غير المسبوق الذي لحق بمقرات البوليس يبرهن أن هذا التصميم يبدو أبعد مدى بكثير مما يمكن أن يقوم به من تبقى من محترفي الجريمة الذين فاتهم قطار التجنيد في جمهورية البلطجةالرئاسية.

وما أن رحلت، الى حين، كتلة الميدان الجبارة بعد سقوط الديكتاتور، حتى كانت الفكرة والروح الثورية قد مست قطاعات تتسع كدوامات المحيط تطالب بآلاف المطالب في كل فروع الصناعة والخدمات وجهاز الدولة والجامعات والنقابات الخ. واتخذت الحكومة والمجلس العسكري موقفا ديكتاتوريا مشينا حينما سنوا قانون تجريم الاضرابات والاعتصامات. وهذا القانون وغيره من القوانين والاجراءات ،مثل تعديلات قانون الاحزاب المعادي لحرية التنظيم فعليا، ومثل الاعلان الدستوري الهجين، هي كلها مما يتعين على الثورة أن تشلها وتجهضها وتسقطها.

ثم امتدت الثورة الى قنا حين نضجت الظروف ليثور الشعب هناك، وتوفر المفجر المطلوب لخزان البارود الممتلىء. لقد ذكرت شهادة النجار أن ثوار الشمال قد أرسلوا رسالة منقوشة على قطار تلوم شعب قنا عن تخلفه في الانضمام الى الثورة في الشمال. ولا شك أن الضربات التي سددتها الثورة الى أعداء الشعب في شهر ابريل 2011 قد فعلت فعلها وقوت عزيمة أهل قنا وملايين المصريين في كل مكان، فانجازات الثورة الملموسة وانتصاراتها هي ملهم عظيم للحركة الثورية نفسها، وكذلك تفعل النكسات والضربات التي تلقاها طغمة مبارك ورجاله وحزبه.

جاء المفجر بتعيين لواء بوليس كمحافظ جديد لقنا. نفس السياسة المتبعة منذ 60 سنة بتعيين رجال أمن أو ضباط جيش في كثير من المحافظات. مايسمى وزير التنمية المحلية – وهو منصب ووزارة يجب أن تلغى – كان ضابط مخابرات سابق في وزارة نظيف، وهو محمد عبد السلام المحجوب، ثم مع وزارة شفيق تم تعيين اللواء محسن النعماني وهو ضابط مخابرات سابق أيضا ومن رجال عمر سليمان ومبارك ومما تقول مصادر صحفية أنه ممن عملوا بوجه خاص في الملف القذر الموكل لعمر سليمان والمتعلق "بوساطة" مصرية بين اسرائيل والفلسطينيين.  ثم احتفظوا به في وزارة شرف بعد الاطاحة بشفيق. وكان قبل الوزارة محافظا لسوهاج. وهو اختيار له دلالة بالغة السوء، فهو استمرار لوضع رجال مخابرات وبوليس في هذه المناصب، كما أنه اصرار على أن يكونوا كذلك من رجال مبارك وعمر سليمان.

محافظ قنا الجديد عماد ميخائيل بالاضافة لكونه من لواءات البوليس الذين عملوا في الجهاز الأمني في عهدي السادات ومبارك، وهؤلاء قد أصبح الموقف الشعبي الرافض لهم بالغ الوضوح، فهو قبطي، وتم تعيينه ليخلف محافظا قبطيا هو اللواء مجدي ايوب اسكندر الذي ظل في منصبه اكثر من 5 سنوات رغم اخفاقه في الحصول على تأييد شعب قنا بما فيه المسيحيين والمسلمين. اختيار خطأ وفي المكان الخطأ وفي الظروف الخطأ. كأنه تماما عقل السادات أومبارك، يسعى الى استثارة التعصب الديني لينشغل الناس في هذا الكابوس، ويستمر الفساد ومبررات كبت الحريات. أو لينشغل الناس عن القضايا الجوهرية في حياة الوطن ومستقبله، لصالح تدمير الذات الوطنية الواحدة بالكراهية والتعصب الديني المجنون.

ان تعيين هذا الرجل وفي هذا المكان وفي هذه الظروف هو دليل على خلل فادح في أهلية وكفاءة متخذ هذا القرار، وهو مايجب أن يحاسب عليه علنا. فهذا يعكس عدم فهم تام للاوضاع في هذا المكان، أو يعكس سوء نوايا شيطاني، وهو ماينبغي ان يخضع للتحقيق على الفور.

وتفيد شهادة النجار أن تداخل عوامل ركوب الموجة الذي دأبت عليه زمرة الاخوان وحلفاؤها من هذه المسوخ الهاربة من القرون الوسطى، وهو مايعتمدون عليه لخلق شعبية ونفوذ في أوساط البسطاء، باستغلال الأزمات ودفعها بخبث الى التأزم أكثر، طالما أن ذلك يكفل لهم أن يظلوا في بؤرة الحدث، ويحقق لهم زعامة دينية سياسية، فباستيلاء هؤلاء على المنصة أمام مبنى المحافظة، كان يكفي أن يقولوا محرضين "عايزينه مسلم" لكي يتمكنوا من أن يزيفوا للجماهير مطلبا لاينتمي اليها ولا تنتمي اليه، مطلبا يسقط فوق رأس هذه الجماهير المسحوقة والمهمشة واليائسة وكأنه سبيل النجاة والتقرب الى الله. كان مبارك مسلما. فماذا فعل بنا؟ وملك آل سعود وبشار وزين العابدين وعلي صالح والقذافي وملك البحرين وكلهم، ليس منهم مسيحي واحد.

معركة شعب قنا هي نفس معركة الشعب المصري بأسره، الكفاح ضد الديكتاتورية والفساد والتخلف والفقر، وبناء مجتمع ديمقراطي حر عادل متطور. وفي حالة هذا المحافظ، فان رفضه يكون لسبب جوهري، حتى ولو لم يكن من رجال البوليس: لأنه مفروض على الشعب، فالشعب يجب أن يقرر بنفسه حكام الأقاليم، بالانتخاب الحر.

أما سلوك الحكومة في هذه الأزمة فهو دليل على تخبط مذهل. فقد أرسلوا اللواءين، العيسوي والنعماني فأثبتا فشلا ذريعا في التعامل مع الموقف. وصرح النعماني في الصعيد الجواني بأنه لن يفرض على شعب قنا محافظ يكرهه، ولما عاد الى القاهرة نسي هذا الكلام، واستعاد حواس عملاء المخابرات وأخذ يتكلم عن أن هؤلاء الناس خارجون على القانون، وأخذ يدافع عن عماد ميخائيل بوصفه "قيادة وطنية مارست عملها في وطنها باخلاص لسنوات طويلة" وفي الواقع فان مثل هذه الأوصاف لو كانت صحيحة لزج به العادلي في السجن على الفور، فجهاز العادلي ومبارك لم يكن ليقبل أبدا مثل هذا الانحراف عن أخلاقيات أجهزتهم لا من عماد ميخائيل ولا من عماد حمدي. ثم اننا نشعر بالدهشة أن النعماني رجل مبارك وعمر سليمان والتعامل مع الصهاينة هذا يمكن أن تكون لديه أي قدرة باقية على الاحساس والتقدير لأشياء جميلة وسامية كالوطنية. 

بقي أن هذا الرجل حاول أن يكذب وأن يخدع مذيع قناة الحياة، يوم 20 ابريل، فذكرأن ميخائيل كان يخدم في ادارة التهرب الضريبي قبل 25 يناير وبالتالي فلا علاقة له بالاعتداء على المتظاهرين،  ففاجأه المذيع بأن ما يعرفه هو أنه خدم
في التهرب الضريبي لمدة 5 أيام فحسب، فارتبك الوزير الكاذب حتى أصابه سعال عصبي وابتسم ابتسامة صفراء وهو يكذب من جديد ويقول للمذيع أن هذه معلومة جديدة بالنسبة اليه، وحاول الوزير الالتفاف على الملاحظة والاستمرار في الكذب بأن قال انه يعتقد انه عموما لم تكن هناك أحداث في الجيزة، الأحداث كلها كانت في ميدان التحرير، أي أنها كانت تابعة لمديرية أمن القاهرة وليست مديرية أمن الجيزة.

والواقع أن الجيزة كانت احدى بؤر الأحداث الثورية منذ يوم 25 يناير، وفي يوم جمعة الغضب فقد جرى الاعتداء على الدكتور البرادعي بمدافع المياه والقنابل المسيلة للدموع في ميدان الجيزة، وأصيب الدكتور محمد أبو الغار بضرب العصي الكهربية في ذراعه، وقام البوليس بهجوم وحشي على المتظاهرين في الجيزة استمر 6 ساعات في هذا اليوم، حسب شهادة الدكتور محمد ابو الغار المنشورة في الأهرام، حتى جاء الآلاف من شباب العمرانية والطالبية الأبطال واقتحموا خطوط الأمن المركزي وفتحوا الطريق أمام المتظاهرين الى ميدان التحرير. وكان اللواء عماد ميخائيل يقوم بدوره "كقيادة وطنية .. باخلاص" في مديرية أمن الجيزة طوال الوقت، وحتى شهر ابريل 2011، لكن النعماني المسكين فقد الذاكرة وهو يحاول أن يغطي هذا المحافظ البوليسي الذي شارك في قمع الثورة، والذي يكافئونه بترقيته، وينتظرون منه أن يكمل عمله المشين في محافظة قنا. لابد أن نطلب من ائتلاف الضباط الشرفاء أن يبحثوا عن أدلة وشهود على دور اللواء عماد ميخائيل ليمكن تقديم بلاغ الى النائب العام لينضم الى باقي رجال العادلي. وليمكن كذلك توجيه الاتهام الى محسن النعماني الكاذب وتقديمه للعدالة.

واستمر أداء الادارة في الانحدار أكثر فأكثر وهم يرسلون الى قنا بالبعثة الكئيبة لمشايخ اللحظة: محمد حسان وصفوت حجازي مصحوبين بالمشبوه عدو الثورة مصطفى بكري. تخبط غريب وأداء هابط الى درجة محيرة من هذه الادارة. من ياترى يكون مخرج هذا الفيلم الهابط؟

والأمر في قنا له ملامح تزيد من تعقيد الموقف، فقبائل العرب والهوارة والأشراف لها تاريخ في المنافسة والكراهية المتبادلة والنزاعات من كل صنف.  وما أن تلوح فرصة حتى تندفع هذه الجماعات لتحويلها الى انتصار لكل منها على الأخرى، بصرف النظر عن سلامة المواقف. وقد فاقم هذا من تعقيد الموقف بوجود البعد القبلي بالاضافة الى أصحاب خطاب الكراهية المحرضين من الاخوان وباقي زمر المشتغلين بالاسلام، وأعداء الثورة من اتباع الحزب الوطني المنحل والحكم السابق. كل هؤلاء جاءوا ليحرفوا مسار الثورة التي فجرها قرار القاهرة الخاطىء بتعيين محافظ قنا.

انني أتفق تمام الاتفاق مع الدكتور محمد أبو الغار في دعوته الادارة الى أقصى حزم في اطار القانون في التعامل مع جرائم الكراهية الدينية وخطاب الكراهية الدينية. بل اني أنادي باعداد قانون خاص لجرائم الكراهية ولخطاب الكراهية، يكون بالغ الصرامة، وتتم المحاكمة أمام القاضي الطبيعي، وينص على عقوبة وجوبية من ثلاثة أجزاء معا وهي الحبس أو السجن مع الشغل مابين عامين الى عشرين عاما، وغرامة مالية مابين مائة الف الى مليون جنيه، وتسجيل اسم المحكوم عليه في قوائم العار التي تكون على شكل لوحة صخرية على أرض ميدان التحرير تنقش عليها أسماء المصريين الذين جلبوا العار على أنفسهم الى الأبد.  

أما للتعامل مع الوضع الحالي في قنا، فلابد على العكس من دعوة الادارة الى الامتناع عن اتخاذ أى اجراء عنيف ضد الثائرين في قنا، والتحذير من أن مثل هذا الاجراء، لو حدث، فسوف يؤدي الى تحرك شعبي واسع لمناصرة شعب قنا ضد اي عمل من أعمال العنف. في نفس الوقت فلابد أن تتراجع الادارة عن تعيين عماد ميخائيل وأن تقوم بالتحقيق العاجل في دوره البوليسي اثناء الثورة وحتى تركه لمنصبه في مديرية أمن الجيزة. ويمكن أن توكل مهمة القيام بعمل المحافظ الى أحد موظفي المحافظة المدنيين بصورة مؤقتة. وتعيين لجنة لتقصي الحقائق من قضاة محترمين ومنهم المستشار زكريا عبد العزيز ابن قنا وتضم عددا من شباب ائتلاف الثورة، تكون مهمتها فحص قرار الادارة بتعيين ميخائيل، ومبرراته، ودراسة تداعيات هذا التعيين التي أدت الى انفجار قنا وتطورات الوضع في المحافظة منذ يوم 14 ابريل، وتقديم استنتاجاتها وتوصياتها.

مثل هذه الاجراءات سوف تؤدي الى خلق مستوى أرقى ومختلف للتعامل مع شعب قنا، وبالتالي الى التراجع عن الاجراءات الصارمة التي اتخذتها حركة الثورة في قنا، وفتح الطريق للتعاون مع لجنة تقصي الحقائق.

وتحسن الادارة صنعا لو بادرت باعلان الغاء قرارات تعيين المحافظين المغضوب عليهم شعبيا، والاعلان مسبقا عن اعادة دراسة كل قرارات تعيين باقي المحافظين، وتقديم قائمة بالمحافظين المؤقتين المقترحين تخلو تماما من أي عناصر عسكرية أو بوليسية، على أن تطرح على الشعب في المحافظات للتعرف على مدى قبول الرأي العام لهم.

لابد من تعلم احترام الشعب، ومن التعامل مع الشعب المصري على اسس جديدة.

أبريل 21، 2011

مصر ومشرقها العربي

تعليق على مقال الأستاذة نوارة نجم
" نداء الى أصحاب المقاومة الرحيمة .. ماتلعبش على الحصان الخسران .. بشار خلص"


لطالما وصف بالقصور فهم المصريين لسياسة المشرق العربي، وهذا المقال للسيدة نوارة نجم يؤكد استمرار هذا المأزق المصري الصرف. فلم يستطع سعد زغلول وحزبه أن يفهما السياسة في المشرق العربي، مثلما استمر الحال هو نفسه الى حد بعيد في هذا الصدد مع جمال عبد الناصر وخلفائه في حكم مصر. فحين جاء الوحدويون السوريون يدقون أبواب مصر في زمن عبد الناصر فقد خلقوا انتباها جديدا ومبكرا لدى حاكم مصر الوطني الطموح لمسائل المشرق، لكن هذا الانتباه لم يتحول الى فهم لحقائق السياسة والمجتمع والثقافة والقوى والتناقضات والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد في سوريا وفي كل المشرق، ذلك الفهم الضروري لوضع سياسات مصرية صحيحة، ولادماج ذلك في اطار مشروع عربي كبير تقوده مصر. ودفعت مصر ودفع المشروع العربي كله ثمنا باهظا لأخطاء السياسة الناصرية بالأساس في مشروع الوحدة مع سوريا، ثم تراكمت الأخطاء السياسية فيما يخص العراق، وشبه جزيرة العرب، ولبنان، وشرق الأردن، وفلسطين. ومهما تحدثنا عن حسن النوايا، فان المعرفة البائسة والملتبسة لعبد الناصر بأمور المشرق والطبيعة الاستبدادية للزعيم الملهم ونظامه البوليسي قد أدت الى سياسة مصرية خاطئة، وفرص ضائعة، ونتائج ضارة لمصر وللمشروع العربي في الزمن الحديث. ثم كان زمن أنور السادات الذي أسفر عن جهل نادر بحقائق المشرق، وسياسة بلغت حد الحماقة، وضربت فكرة المشروع العربي في الصميم، وأدت الى عزلة مصر عزلة مريرة عن مشرقها في نهاية المطاف. كان السادات نموذجا للمصري الجاهل والانتهازي وهو يتعامل مع السياسة العربية. ثم جاء زمن ضلت فيه بقرة من احدى مزارع المنوفية طريقها الى القاهرة فحكمت مصر، ورأينا سياسة الأبقار وقد تحولت بمصر من العزلة الى التفاهة والهوان. والحال أن مصر الراهنة تحتاج الى وضع مبادىء راسخة لسياستها العربية، المشرقية والمغربية، وتحتاج الى تنظيم جهد جبار يسابق الزمن ليحول هذه المبادىء الى حياة زاخرة للمشروع العربي الكبير وللنهوض المصري من التابوت. ووضع المبادىء ونفخ الحياة فيها لايمكن أن يتم الا على أساس معرفة عميقة بالحقائق العربية. وفي حدود هذا التعليق، نرى أنه من غير الملائم أن يوضع موقف حزب الله في تناقض مع الأخلاق اذا لم يعبر فورا عن ادانته لسفاح دمشق. ومن الخطأ أن نرى في انتفاضة الشعب السوري من أجل الحرية امتحانا لحزب الله أو للمقاومة الفلسطينية، بل ان الامتحان هو للشعب السوري البطل نفسه، ولجلاديه البرابرة الفاسدين. ولا يعني صمت حزب الله عما يجري في سوريا فسادا في ضميره، أو تراجعا في شجاعته وجسارته، أو خيانة للشعب السوري. حزب الله عليه أن يحافظ على نفسه كأعظم حركة مقاومة وطنية شعبية مسلحة في العالم العربي، حركة تذكر بأمجاد جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وتلهم الشعوب العربية بأسرها أن النضال ضد العدو الهمجي المتفوق عتادا ممكن، وأن هزيمته ممكنة، وأن انتصار الشعوب العربية في نضالها ضد الصهيونية وضد الاستعمار الاوروبي والأمريكي ممكن. هكذا رأينا حزب الله في الميدان، وهو يبدو كأنما يحارب العالم بأسره، أعداءه وبني قومه من الملاعين، وقوى الشر الدولية من كل نوع، وهو يبدو بطلا وحيدا أسطوريا. لم يصفع أحد خنوع حكام العرب الفاسدين ويعريهم من ورقة التوت مثلما صفعهم نضال حزب الله وانتصارات حزب الله. وأمام أعين الشعب السوري كان نموذج نضال حزب الله يفقأ عيون حكام دمشق منذ أعلن حافظ الأسد أن تحرير الجولان هو من شأن الأجيال المقبلة! أما جيل حافظ وورثته، وجيش المرتزقة التابع لهم، فلهم فحسب أن يستمتعوا بنهب الشعب السوري وجلده، وادعاء الوطنية، والتطفل على المقاومة، واستخدام أكثر قواميس الدعاية فجورا في كذبها. لهذا فان لحزب الله أن يتخذ من المواقف مايراه للحفاظ على المقاومة وسلاحها في لبنان، وأن تكون سياسته العربية والدولية في خدمة نفس الهدف. ومع انتصار الشعب السوري وظهور قيادة جديدة في دمشق، قيادة وطنية وديمقراطية، سوف يعلن في نفس الوقت ميلاد تحالف جديد لحركة المقاومة في لبنان مع حركة المقاومة في سوريا لطرد الاحتلال الصهيوني من الجولان ومن مزارع شبعا، واحكام الحصار من جديد على عصابة تل أبيب. أما ما يمكننا أن نلاحظه من أجل المستقبل، فهو أن نطالب حزب الله أن يعيش العصر والمستقبل بكامل عقله، وأن يستخلص نصف عقله الذي يغيب في سماوات لاتملك بناء المستقبل، وأن يتبنى ويشيع مبادىء ومفاهيم الحرية، وأن يضع مهمة تطوير جنوب لبنان وشعب ومجتمع الجنوب واقتصاد الجنوب نصب عينيه. فالمقاومة تستطيع أن تضرب المثل، وأن تزرع وتصنع الجنوب ليكون بقعة عصرية مزدهرة.      

أبريل 04، 2011

وداعا هشام السلاموني، وسلام عليك!


كان قاسيا من الشاعر زين العابدين فؤاد أن سرب الينا هذا النبأ الحزين. فالشعراء لهم رقة الورود، لكنهم لاحيلة لهم في أشواكها أحيانا. وحده هشام، كان شاعرا بلا أشواك، وكانت له ورود كثيرة. كنت أراه يخطو وهو في نحو الثانية والعشرين كدب طيب على الطرقات الكثيرة للقصر – قصر العيني – ساهما، وكراسته تحت ابطه، تسبقه نظارتاه، وابتسامة خفيفة راضية، وملامح لاتكف عن التساؤل، وعينا انسان حي. اذن فقد رحل هشام، وياحزني عليه. رأيته أول مرة في عام1971 على مسرح كلية الطب ممثلا ومخرجا مبدعا لمسرحية يوسف ادريس "الفرافير". ثم رأيته شعلة لاتهدأ في الحياة الثقافية لكلية الطب ولجامعة القاهرة وفي صفوف الحركة الطلابية الوطنية التي هزت مصر وعبرت عن ضميرها وعن ارادة المقاومة فينا في عامي 1972 و 1973. وكما صاغ زين العابدين المسألة بالتحديد فقد كان هشام: حالة انسانية خاصة. فالحركة الطلابية هبت لمقاومة تلاعب أنور السادات بالقضية الوطنية المصرية، واستمرار النهج الديكتاتوري في الحكم، واتباع سياسة اقتصادية جديدة تؤدي الى تصفية وتبديد مصادر القوة الاقتصادية الوطنية التي بنتها مصر بعرقها ودموعها أيام عبد الناصر. كانت الحركة الطلابية الوطنية تنادي بتحرير سيناء كجزء من الاستقلال الوطني والكرامة والمصالح الوطنية التي يجب صيانتها، وكانت تنادي بدستور ديمقراطي وجمهورية برلمانية واطلاق الحريات السياسية والنقابية، وكانت تنادي بحماية الثروة الوطنية وتطوير الاقتصاد الوطني و وتحويله الى اقتصاد حرب، وحماية الشعب من الافقار في مواجهة غيلان طبقة طفيلية جديدة أطلقها السادات. كانت معركة ضارية استخدم فيها السادات آلته البوليسية المتوحشة، ودفع الى الجامعة بجماعات همجية من عملاء أمن الدولة وجماعات أطلقت على نفسها "شباب الاسلام" استخدمت الأسلحة البيضاء في الهجوم على مناضلي الحركة داخل وخارج الجامعة، كما استخدم السادات كل طاقة ماسبيرو في الكذب والتشويه في اوركسترا مع عملاء النظام في الصحافة.  ما أشبه الليلة بالبارحة! رهافة الاحساس وقلب الطفل و طبيعة الفنان جعلت من الدكتور هشام السلاموني رجلا لايستطيع احتمال كل هذا العنف الذي لامفر منه في مجرى الصراعات الكبرى. كان يجفل من عنف الألفاظ وعنف الأسلحة، ويحلم بصفاء الحياة يوما. وعاش ما عاش كل خيبات أمل هذا الجيل الذي فتح عينيه على العدو النجس وهو يدنس شاطىء القناة الشرقي في 1967. ثم على أنور السادات يعلن بيجن صديقا ويندفع الى بيع هضبة الأهرام ويسعى لمد النيل الى صحراء النقب والى منح شارون أرضا حول السد العالي ليزرعها، ثم عاش كل عهد مبارك الذي واصل سياسة السادات حتى ظن أن بوسعه أن ينصب ولده الكئيب المشئوم على عرش مصر ليواصل مسيرة ابيه. في ظلال كل هذا الجنون الذي أنشب مخالبه في مصر عقودا كان هشام يسعى في صفوف حركة كفاية ويزرع شوارع عين الصيره ليدعم صديقه المناضل الطلابي القديم الفذ أحمد عبد الله وهو يحاول عبثا أن يجد مكانا له في أحد برلمانات مبارك في احدى معارك الانتخابات المحسومة النتائج دائما سلفا، وبعدها بقليل ترك أحمد الحياة وقرأت مرثية هشام لأحمد. وتشبث هشام بالحياة حتى رأى ملايين المصريين يملأون ميدان التحرير معا بصوت القدر، وحتى رأى الرئيس الذي أفسد وفرط في بلاده وشعبه ومصالح بلاده وهو يرحل ذليلا منبوذا بأمر المصريين وقد صاروا قدرا. ورغم ذلك، فقد أغمض هشام عينيه على قلق وطني عظيم، وجاء دورنا لنرثيه، ونرسل اليه زهورا، ونستمر نحن أيضا لبعض الوقت، نحاول أن نزيح هذا الكابوس الفظيع عن صدر مصر، وربما كنا أسعد حظا حين نغمض أعيننا، فلا نغمضها على قلق. لقد فقدناك ياهشام، وافتقدناك كثيرا، وسوف نفتقدك اكثر منذ اليوم. وداعا هشام، وسلام عليك!   
أحمد صادق

أبريل 03، 2011

حمزاوي ينضم الى موكب الارتجال الدستوري


حمزاوي ينضم الى موكب الارتجال الدستوري
في مقاله بصحيفة الشروق في أول ابريل 2011، أفرط عمرو حمزاوي في تحية المجلس العسكري على أمور تستدعي أشد النقد، بخصوص الاعلان الدستوري الثاني للمجلس وغيره من الأمور.
والأستاذ حمزاوي كاتب ومحاضر وأكاديمي بالغ النشاط في كرنفال السياسة الرسمية الراهنة في مصر.
وقد رأى الأستاذ حمزاوي أن احتفاظ الاعلان الدستوري - الثاني في أقل من شهرين - بنسبة ال 50% للعمال والفلاحين، والاحتفاظ بمجلس الشورى، والاحتفاظ بسلطات مطلقة للرئيس وحمايته من المساءلة كلها أمور كان لايجب المساس بها في مثل هذا الاعلان الدستوري لما "في هذا من جوهر غير ديمقراطي" اذ "يضع قواعد جديدة تتجاوز ماارتضته الارادة الشعبية في استفتاء 19 مارس" ولو فعل المجلس العسكري واللجان الدستورية التي صاغت الاعلان الدستوري ذلك لوقعا في "خطيئة كبرى" ولاستحقا العقاب من الأستاذ حمزاوي الذي كان سيكون "أول المعترضين" –  ففي ذهنه يبدو أنه من فرط الأدب فان "المعارضة السياسية" لاتصح، انما "الاعتراض" السياسي هو السلوك الحميد –  لهذا فقد استحقا – المجلس العسكري ولجانه الدستورية السرية التي لانعرف اسم واحد من أعضائها -  "التحية" من الاستاذ حمزاوي لابتعادهما عن مواطن الزلل و"الخطيئة الكبرى".
 والكاتب الذي يعمل في مؤسسة كارنيجي، يبدو أنه لم يتعلم أي شيء من وجوده في ميدان التحرير بل ربما ضبط نفسه مرة يهتف مع الثوار دون أن يدري: "الشعب يريد اسقاط النظام" ثم نسى ذلك كله، و يدلنا مقاله هذا كذلك على مدى "الديمقراطية" التي تبشر بها أمثال مؤسسة كارنيجي.
فالأستاذ كارنيجي كما نرى يبدأ تاريخه الجديد من 19 مارس – وهو التاريخ الذي كان هو نفسه بالصدفة "أول المعترضين" عليه ثم تاب وأناب واعتمده مرجعا، لفرط خصوصية ديمقراطيته – ودفع الى الظل والظلام تواريخ أخرى مجيدة حقا في ضمير مصر وضمير البشرية كلها مثل 25 يناير و11 فبراير.
 قي 25 يناير ثار الشعب المصري لاسقاط الديكتاتور واسقاط دستور الديكتاتور وأركان نظام الديكتاتور، وبناء مجتمع ديمقراطي حر عادل متطور في مصر.
وجاء المجلس العسكري وأعلن من طرف واحد مجرد "تعطيل" وليس "اسقاط" الدستور. ثم أعلن "تعديل" عدة بنود من الدستور"المعطل". ثم اسرع بدعوة الشعب الى استفتاء "لتعديل" "المعطل". ثم أعلن أن الشعب وافق على "تعديل" "المعطل". ثم قام مرة أخرى من طرف واحد باعلان "دستور مؤقت" - حسب التصريحات المعدلة للمتحدث الدستوري باسم المجلس اللواء شاهين للشروق في 2 ابريل التي أكدت كذلك أن دستور 71 "مات تماماولم يعد له أي وجود" - بينما احتفظ المجلس في الدستور المؤقت بأفظع سوءات " 71المعطل" بالاضافة الى "تعديلات المعطل، المستفتى عليها". كما اكتشفنا أن المجلس قد أعطى نفسه الحرية في "تعديل" "التعديلات" التي أقرها الاستفتاء (أنظر المادة 60 من الاعلان الدستوري)! 
من الذي يسأل عن هذه "المتاهة الدستورية" التي دوخوا مصر فيها منذ 48 يوما، منذ أصدروا الاعلان الدستوري الأول؟ بلا ريب، يسأل المجلس العسكري ولجان مستشاريه الذين اختارهم بنفسه، ثم يسأل أمثال الأستاذ حمزاوي الذين يحيون هذه "الانجازات" ذات "الجوهر الديمقراطي" والمنزهة عن "الخطيئة الكبرى".
المسألة أن هناك في مصر ثورة. ثورة تهدف الى تغيير جذري حقيقي عميق للمجتمع كله، تغيير نستحقه، ونقدر عليه، ودفعنا وسنواصل دفع ثمنه.
والاعلان الدستوري الثاني هو آخر حلقة في مسلسل المتاهة الدستورية، حتى الآن.فهذا الاعلان الدستوري:  
1 - يخلق رئيسا ديكتاتورا جديدا كامل الأوصاف،
2 - ويخلو من سطر واحد ينص على مسائل محاكمة الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء ومحاسبتهم ومساءلتهم وعزلهم، 
3 - ويحافظ على سنن وفروض الخداع والتدليس السياسي التي خنقت مصر عقودا طويلة مثل تخصيص 50% من مقاعد المجالس المنتخبة للعمال والفلاحين،
4 - ويحافظ على مجلس نيابي اضافي لالزوم له ويقصر دوره على الدراسة وابداء الرأي، لكنه يحشره حشرا في انتخاب الجمعية التأسيسية للدستور الجديد،
5 - وأضفى ألوهية محيرة على "لجنة الانتخابات الرئاسية" وقراراتها، مما ليس له شبيه في الدساتير الديمقراطية، ولا في القوانين المحترمة حسنة السمعة،
6 –  وجعل انتخاب الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد مقيدا بالأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى، بما يبعدها عن طبيعتها كمهمة تاريخية خاصة، تتطلب أوسع مشاركة جماهيرية مباشرة،وتمثيل جماهيري مباشر،
7 –  يتحدث الاعلان الدستوري عن أن الشروط الواجب توافرها في رئيس الجمهورية تسري بالنسبة لمن يعينهم نوابا له، كما تسري عليهم القواعد المنظمة لمساءلته، دون أي ذكر في أي موضع من الاعلان لا لمساءلة الرئيس، ولا للقواعد المنظمة لمساءلته، وبالتالي فان الاعلان الدستوري يعفي نواب الرئيس كذلك من المساءلة، اذ يسري عليهم ماليس موجودا في الاعلان الدستوري، فأين هو ياترى؟
8 –  تركت المادة 38 النظام الانتخابي مجهولا ويتم وفقا للقانون الذي لم نعرفه بعد، والذي يقع ضمن سلطات المجلس العسكري طبقا للاعلان الدستوري، فهل ينوون جعل النظام الانتخابي وفقا للقائمة كما طالبت أغلبية الكتاب والمشاركين والمفكرين وجمهور الثورة أم استمراره طبقا للنظام الفردي الذي تم استغلاله دائما لتأبيد تخلف النظام الانتخابي في مصر وادارته بطريقة تؤدي الى سيطرة المال والرشوة الانتخابية والعصبية والعائلية وأحط العلاقات فسادا بين الناخبين والمرشحين. والسابقة التي تدعو لأشد القلق هي قانون الأحزاب المعيب الذي أصدره فعلا المجلس العسكري، والذي يصادر عمليا حق التنظيم الحزبي، ويخضعه لجملة من القيود، بعضها غير منطقي بالمرة، وبعضها معاد للديمقراطية صراحة، وبعضها يقتضي شروطا مالية تعجيزية، وبعضها لايفهم أن مصر في مرحلة تأسيس لنظام سياسي ديمقراطي جديد من العدم بعد تحطيم مثل هذا النظام الذي بنته مصر في أعقاب ثورة 1919، اعتبارا من استيلاء الجيش على السلطة في 1952، وأن هذا التأسيس لنظام جديد يقتضي أوسع اباحة وحرية، وليس أقصى تقييد ومصادرة وتضييق كما يتضح من هذا القانون.
9 –  قام المجلس العسكري بهدوء بادخال "تعديل" جوهري على المادة 189 "المعدلة"  بأجزائها والتي عرضت للاستفتاء الشعبي وتم اقرارها في الاستفتاء. قارن التعديل الذي عرض للاستفتاء تحت رقم المادة 189، و"تعديل التعديل" الذي قام به المجلس العسكري واثبته في الاعلان الدستوري تحت رقم المادة 60. ولا ندري مااذا كان السيد حمزاوي شديد الديمقراطية قد لاحظ ذلك، ولاحظ بالمرة أن في ذلك ادخال هادىء لأشياء "جديدة تتجاوز ما ارتضته الارادة الشعبية في استفتاء 19 مارس" الذي أصبح حبيبا الى قلبه؟

المجلس العسكري استطاع أن يدخل تعديلات على النصوص التي دعا الشعب لتأييدها في الاستفتاء، وقد أدخل هذه التعديلات بعد مرور 10 أيام فحسب على الاستفتاء ونتيجته، لكن نفس المجلس لم يستطع أن يدخل تعديلات على "مواد خلق الديكتاتور" كما استلهمها من الدستور الساقط، وعلى "مواد الخداع السياسي" كحكاية ال50%، وعلى  "مواد البقايا الحفرية البلهاء للنظام القديم" مثل مجلس الشورى الذي يذكرنا على الفور بمخلوقات فاضلة مثل صفوت الشريف ورفعت السعيد وهشام طلعت مصطفى ومصطفى الفقي وممدوح اسماعيل ونبيل لوقا بباوي وابراهيم نافع .. الخ !

لماذا استطاع، ولماذا أحجم؟ نحن نسأل المجلس العسكري، والسيد حمزاوي، ولا نرغب في أن نجيب نيابة عنهما. ربما استطاع المتحدث الدستوري السيد شاهين أن يجهد نفسه قليلا ويجد اجابة مقنعة، والاجابة المقنعة لاتكون سوى شىء واحد: الحقيقة، فاذا قرر ذلك فاننا نتوقع أن يكون أكثر هدوءا وأكثر انضباطا عندما يتكلم.  

 عن نسبة 50% من العمال والفلاحين
صاغ جمال عبد الناصر جملة من الأفكار التي أسماها التطبيق العربي للاشتراكية. كان يبحث عن نظرية تفلسف مشروعه لتحرير مصر وبنائها، وتدعم وتبرر انفراده الاستبدادي بالسلطة، وتلهم الجماهير المصرية والعربية. وقد اصطدم عبد الناصر بكافة القوى السياسية المستقلة في عهده، وقمعها بوحشية ندر أن يكون لها مثيل، واستطاع أن يحطمها وأن يقضي عليها جميعا مستخدما واحدة من أفظع انظمة وماكينات البوليس في العالم، ولم يتورع عن استخدام  جهاز دعاية موجه بالكامل يستخدم كل الوسائل لتحطيم كل القوى السياسية – والنقابية – المستقلة. هذا الرجل، البطل الوطني التاريخي للمصريين، تصرف كحاكم من القرون الوسطى، يريد أن يجر شعبه ووطنه الى التقدم وفق رؤيته هو وارادته هو وأحلامه هو، ولا يسمح في الوادي أن توجد او تتنفس أي رؤى أخرى ولا ارادة أخرى ولا أحلام أخرى لأحد. الزعيم هو كل شيء، يفهم كل شيء، ويقرر كل شيء، ويعتني بالشعب وبالوطن كما يرى، وعلى الشعب أن يصطف خلفه، وأن يسلمه عقله وقلبه وارادته. وقد تصور عبد الناصر أن بوسعه أن يشطب صراع الطبقات من الواقع المصري، وأن يحل محله ماأسماه "تحالف قوى الشعب العاملة" وهي العمال والفلاحون والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفون. وعلى هذه القوى أن تتحد معا في تنظيم واحد هو "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وبالتالي فليس هناك أى مبرر لوجود أحزاب سياسية أخرى في المجتمع. ومن أجل ما أسماه عبد الناصر "تذويب الفوارق بين الطبقات" فقد استند الى جملة من الاجراءات والسياسات والشعارات التي كان من بينها: ضمان نسبة 50 % من مقاعد المجالس النيابية المنتخبة كلها للعمال والفلاحين. وكان من الطبيعي أن تظهر مبكرا مشكلة تعريف العامل والفلاح، وأيامها اقترحت طبيبة تعمل بالسياسة أن يكون تعريف الفلاح بأنه الشخص الذي يتبول دما، اشارة الى توطن وباء البلهارسيا في الريف، ولم يأخذ أحد بنصيحتها، ولكن تشكلت عشرات من المجالس المنتخبة على مر الزمن، وكانت تخضع للقانون وتلتزم في عضويتها بالنسبة المقررة للعمال والفلاحين، طبقا لتعريفهم الذي اخذ يتلون ويتغير مع الزمن. وقد عاش عبد الناصر وتعهد هذه الأفكار لثماني سنوات في حياته (مابين 1962 و 1970). وحتى في عهد عبد الناصر، فكم من الفلاحين والعمال الكادحين استطاع أن يدخل الى أي مجلس نيابي؟ وكيف يستطيع كادح من ملايين الكادحين أن يتقدم للبرلمان أو غيره، وينجح في منافسة فلاح غني، أو عامل وصولي يعرف الطريق الى البرلمان والنقابات، وله علاقات مع جهاز أمن الدولة؟ ثم ماهي قيمة المجالس المنتخبة في العهد الناصري؟ لم تكن برلمانات ولا مجالس حقيقية قوية، تستطيع أن تؤدي وظيفتها السياسية والتشريعية والتمثيلية. كانت مجرد مؤسسات ديكورية تنفذ ماتؤمر به. ورحل عبد الناصر، وجاء أنور السادات ليهدم كل بنيانه، نظريته وأفكاره وتنظيمه وأصالته الوطنية وجوهر انجازاته الوطنية للبلاد. واحتفظ السادات باستبداد السلطة والدولة البوليسية، ومعها نسبة 50% للعمال والفلاحين.
لكنه على امتداد 40 سنة من حكم السادات ومبارك، لم يتح لنا أن نلمح فلاحا كادحا واحدا يفلت ويدخل البرلمان، لكننا لمحنا عاملين كادحين يتيمين استطاعا أن يدخلا البرلمان لفترات قصيرة، وأن يتحدثا باسم العمال والشعب الكادح، وهما أبو العز الحريري من الاسكندرية والبدري فرغلي من بورسعيد، وقد قام البوليس بدوره في تزوير الانتخابات في دائرتيهما ومنعهما من دخول البرلمان في معظم الانتخابات.
هذه المجالس النيابية في عهدي السادات ومبارك ترأسها أناس افاضل مثل حافظ بدوي ورفعت المحجوب وصوفي أبو طالب وفتحي سرور. وكانت كلها برلمانات فاسدة ضعيفة، تفعل ماتؤمر، وتسيطر عليها السلطة سيطرة تامة.

احتفظت سلطات السادات ومبارك بسياسة 50% من العمال والفلاحين لمجرد الخداع. فهم يقررون أسماء أعضاء المجالس سلفا قبل الانتخابات، وهم لم يحبوا ابدا أن يكون هناك عمال أو فلاحون كادحون، ويمثلون ملايين الكادحين حقا في برلماناتهم.

هل تصور أحد مجتمعنا وقد اختفى منه العمال والفلاحون؟ ماذا تكون النتيجة؟ سينهار المجتمع انهيارا تاما، ولن يعود هناك أي شيء من ضرورات الحياة، وسيختفي باقي الشعب حتما اذا لم ينجح في التحول الى عمال وفلاحين. انهم ملح الحياة. أكثر الناس شقاء وعملا، ومع ذلك أكثر الناس جوعا وعريا وامتهانا لكرامتهم ومرتعا للأوبئة وحرمانا من التعليم ومما يكفي من الضرورات لحياة كريمة.      

هؤلاء الناس لاتعنيهم نسبة ال 50% المضللة. انهم لايستطيعون الاستفادة بها في أوضاعهم هذه. فقط يتاجر باسمهم أخرون ليسوا منهم، وربما لايشبهونهم أبدا.

مايعني شعبنا الرائع من العمال والفلاحين هو أن يتعلموا القراءة والكتابة، ألا يصبح منهم أمي واحد على أرض وطننا خلال سنتين. أن يتعلموا كيف يؤسسون نقاباتهم العمالية المستقلة المخلصة لهم، واتحاداتهم الفلاحية التي تعرف مصالحهم وتدافع عنها. أن تتشكل أحزاب سياسية تعرف كيف تدافع عن مصالح العمال والفلاحين، وأن تجذبهم الى عضويتها ونشاطها، وأن تدفع الى المجالس المنتخبة بأعضائها الذين يدافعون عن القرارات وعن التشريعات التي تتيح لهم الحياة الفاضلة التي يستحقونها.

بقي أن نؤكد على أهمية السلاح الوحيد الذي يملكه العمال للدفاع عن حقوقهم وعن حقوق الشعب وقضاياه الكبرى: سلاح الاضراب السلمي عن العمل. هذا السلاح ليس فقط لحماية العمال، انه سلاح في معركة الحرية والمعارك الوطنية للشعب كله، ولا يجب أبدا أبدا أن ينكس هذا السلاح أو أن يكسر أو أن يسلم لأي كان غير أصحابه: العمال وكل الشعب. 

ولابد من افشال كل المحاولات الرامية الى تجريم حق الاضراب. لابد من صيانة وتأكيد الحق المطلق للاضراب السلمي عن العمل، في جميع الأوقات، ومهما كانت الظروف.

عمال مصر في قلب قوى الثورة، ويعرفون واجبهم، ويتصرفون بأعلى قدر من المسئولية والحرص على سلامة البلاد ومصيرها وعلى الأهداف التي تقرها ارادة الشعب. وعمال مصر لايقبلون وصاية ولا سيطرة من اولئك الذين ينظرون لقضايا الحياة والوطن والحرية من منظور مختلف حتما عن منظور العمال والشعب.

انه جدل عقيم حقا هذا الجدل حول الابقاء على نسبة العمال والفلاحين، ومن يريدون الاحتفاظ بها هم اما من الرومانسيين الاجتماعيين أو من سيئي النية المخادعين والمتاجرين. شكرا جمال عبد الناصر، نحن نرد اليك هذه الهدية، فما ينفع العمال والفلاحين انما هو اتحادهم ووعيهم بأنفسهم وبكرامتهم وبحقوقهم وبنضالهم من أجلها بأنفسهم وبأسلحتهم الديمقراطية.  
   
وعودة الى السيد حمزاوي الذي اعتقد خطأ أن "الارادة الشعبية في 19 مارس" قد أرادت الاحتفاظ بنسبة العمال والفلاحين المزيفة والمضللة، أو أرادت الاحتفاظ بمجلس الشورى، او أرادت الاحتفاظ بكل الترسانة الدستورية لرئيس ديكتاتور. بالقطع فليست الارادة الشعبية في هذا اليوم ولا في أي يوم سبق ولا في أي يوم قادم هي التي تريد الاحتفاظ بكل هذه الانقاض والخرابات للعهد البائد، ولكنها ارادة أخرى غير ارادة الشعب، ارادة لم تتعلم بعد أن تحترم ارادة الشعب.  
والحال هكذا فلا مفر من رفض هذا الاعلان الدستوري، واصدار اعلان دستوري جديد، يفتح الطريق الى تأسيس حقيقي للديمقراطية في مصر. وازالة كل القيود على تأسيس الاحزاب السياسية باصدار قانون يصحح المصادرة الفعلية لحق التنظيم التي يفرضها القانون الحالي للأحزاب. واصدار القوانين المكملة بما يضمن انحيازها الكامل لمعايير الحرية والديمقراطية التي اصطلحت عليها البشرية والتي لامجال للالتفاف حولها من أي كان.   

أبريل 01، 2011

فى المسألة الدستورية على الطريقة المصرية


يشرفني أن استضيف هنا مقال الدكتور محمد نور فرحات الذي يتمتع بصفاء مدهش وبلاغة لغوية وقانونية رصينتين حول المسألة الدستورية المصرية التي جعل منها المجلس العسكري لغزا وسرا عسكريا محيرا، كما صنع منها مادة لأشد بواعث القلق على مصير الوطن.
وبوسعنا اليوم أن نقول - وبعد 48  يوما قضاها المجلس العسكري في حكم البلاد - أن المجلس أخطأ التفكير كما أخطأ التدبير على طول الخط في تناوله لمسألة الدستور، وراكم الأخطاء واحدا تلو الآخر، حتى جعل من وجوده أكثر قأكثر عائقا في طريق تقدم الشعب نحو: 1 - هدم وازالة أركان نظام الفساد. 2 - التقدم لبناء قواه الحية لتأسيس نظام ومجتمع جديد، مجتمع ديمقراطي حر عادل نظيف، يستطيع بناء نهضة حقيقية شاملة لصالح كل أفراد الشعب.
يبدو السلوك الفعلي للمجلس العسكري في اتجاه معاكس لكل فيضان الأمل الذي ساد مصر منذ 25 يناير، كما تبدو تصريحات أبرز المتحدثين باسمه: اللواء ممدوح شاهين مؤكدة لكل نذر الشر التي باتت تنعق في الوادي.    
ان الوضع بات خطيرا، وأصبح واجب كل القوى الوطنية في مصر أن تنهض للمقاومة.
                                                                                                         أحمد صادق

والآن الى المقال الذي نشر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 1 ابريل 2011

                                                 ----------------------------

فى المسألة الدستورية على الطريقة المصرية
بقلم   د.محمد نور فرحات   
 ١/ ٤/ ٢٠١١
هذا خطاب موجه إلى الجماعة القانونية المصرية المهتمة بأمر الشرعية والدستور، وإلى جماعة النخب الثقافية والسياسية فى مصر المهتمة بأمر استقامة عمل الجماعة القانونية المصرية، وإلى جماهير المصريين الذين يهمهم أمر استقامة نخبهم وأمر استقامة مسألة الشرعية والدستور.
كان هم الدستور هماً حاضراً فى وجدان المصريين، يتذكرونه بمرارة كلما طافت بخاطرهم ذكرى التعديلات الدستورية التى أجهضت كل أحلام الديمقراطية، والتى أُدخلت على الدستور عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٧، وبات واضحا أن الدستور قد أصبح- دون مواربة- مطية يمتطيها الرئيس السابق وجماعته من أجل تحقيق أهوائه ومطامحه السياسية فى توريث الحكم لنجله متحررا من كل قيد على سلطاته ومن كل قابلية للرقابة أو المساءلة، وقتئذ اسْتُهلكت طاقات النخبة الليبرالية فى حوارات غير مجدية عن التعديلات الدستورية، كان حوارا من أجل الحوار وحده، وكانت قافلة تعديل الدستور من أجل التوريث تمضى والمثقفون والساسة يصيحون ويعترضون كيفما تسنى لهم الصياح والاعتراض.
ثم جرى استدعاء أمر الدستور وتعديلاته مرة أخرى إلى حلبة الصراع السياسى بواسطة الرئيس السابق عندما اندلعت ثورة ٢٥ يناير، وكان التلويح بالتعديلات الدستورية أداة فى يد النظام السابق لإدارة الصراع مع الثوار وحملهم على التهدئة والانصراف فى مقابل تعديل المادتين ٧٦و٧٧، ولم يفهم الرئيس السابق ومستشاروه أن المصريين لم يثوروا من أجل تعديل بعض مواد الدستور بل من أجل إسقاط النظام بأكمله، ويأتى بالتبعية لذلك إسقاط دستور النظام وليس مجرد تعديل مادة أو عدة مواد منه.
بنجاح الثورة فى حمل الرئيس السابق على التخلى عن الحكم فى ١١ فبراير آثر الرئيس إلا أن يقرن تخليه عن الحكم بإعلانه استمرار ازدرائه للدستور وانتهاكه له، فتخلى عن الحكم على خلاف ما هو مقرر فى المادة ٨٣ من الدستور التى أوجبت عليه تقديم استقالته إلى مجلس الشعب، وأسند الرئيس السابق حكم مصر على خلاف ما نصت عليه المادة ٨٤، إلى جهة لا ذكر لها فى الدستور وهى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ما هو وضع دستور ١٩٧١ بعد أن بادر الرئيس بانتهاكه فى آخر قرار يصدره؟ هل سقط الدستور؟ قد يصح القول إن مخالفة الرئيس السابق بعض نصوص الدستور لا تعنى سقوط الدستور، وقد نوافق على ذلك، فالدستور باقٍ رغم انتهاكه، ولكن الأهم من ذلك أن قبول المجلس الأعلى للقوات المسلحة القيام بأعباء الحكم على غير مقتضى الدستور ليس له إلا معنى واحد وهو أن المجلس لا يستند فى شرعيته إلى دستور ١٩٧١. فإلى أى شرعية يستند المجلس فى حكم مصر وفيما يصدره من قرارات تتعلق بإدارة شؤون هذا الحكم؟ ليس أمامنا لتبرير اختصاصات المجلس بالحكم سوى شرعية الثورة ذاتها باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا فى حكمها الأخير فى قضية الاستفتاء على التعديل، ويكمل هذا الاستخلاص استخلاص آخر ملازم له وهو أن دستور ١٩٧١ قد سقط إلى غير رجعة، إذ لو قلنا ببقائه لسقطت الشرعية عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولدخلنا فى مأزق دستورى وسياسى لا مخرج منه، ومؤدى القول بسقوط دستور ١٩٧١ بمجرد تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم أن قراره بتعطيل هذا الدستور هو قرار منعدم لأنه وقع على غير محل، فقد عطل المجلس دستورا لا وجود له، ويثور السؤال حول الشرعية التى استند إليها المجلس فى الفترة ما بين تولى المجلس شؤون الحكم وقراره بتعطيل الدستور، أى فى الفترة ما بين ١١ فبراير، تاريخ تخلى الرئيس السابق، و١٣ فبراير، تاريخ تعطيل الدستور؟ هل كان يستند المجلس إلى شرعية الدستور؟ إذن فهو مجلس غير شرعى لأن الدستور لم ينص على هذا المجلس. أم كان يستند إلى شرعية الثورة؟ إذن فنحن أمام دستور لا وجود له بفعل الثورة. وقد أجمع فقهاء القانون الدستورى على أن الثورة تُسقط الدستور ولم يخرج عن ذلك القول أحد منهم (راجع- على سبيل المثال- كتاب الدكتور عبدالحميد متولى: القانون الدستورى والأنظمة السياسية، ١٩٨٩، ص ٧٤ وما بعدها).
فقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعطيل الدستور هو قرار منعدم، كما قلنا، لوقوعه على غير محل، ولا يعرف الفقه عموماً، والفقه الدستورى على وجه الخصوص، ما يسمى تعطيل القانون أو الدستور، فالقوانين والدساتير توضع لتُنفّذ وإلا فلتُلْغ بواسطة من يملك الإلغاء، أما التعطيل المؤقت للقانون أو للدستور فلم نعثر له على ذكر لا فى كتب نظرية القانون ولا فى مؤلفات الفقه الدستورى، وإنما هو بدعة قانونية لجأ إليها فقهاء هذا الزمان لهدف لا نعلمه ولم نتبين مراميه. يتحدث السنهورى وحشمت أبوستيت فى كتابهما (أصول القانون) (ص ٢٥١) عن الإلغاء الصريح للقانون أو الإلغاء الضمنى له، ولم يتحدثا أو يتحدث أحد من الفقهاء عن التعطيل المؤقت للقانون، ويتحدث عبدالحميد متولى عن إلغاء الدستور بواسطة سلطة وضعه أو بفعل الثورة، ولم يتحدث أو يتحدث أحد قاطبة عن تعطيل الدستور بصفة مؤقتة.
شكّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة لجنة أخرى غير التى كان الرئيس السابق قد شكّلها لتعديل بعض مواد الدستور هى بذاتها المواد التى كان الرئيس السابق قد عرض تعديلها فى صفقته التى أراد بها إجهاض الثورة . كان للرئيس السابق منطقه السياسى والقانونى فى الشروع فى تعديل الدستور، منطقه السياسى تمثل فى مناورته بالمقايضة على إخماد الثورة بالتعديل الدستورى، ومنطقه القانونى كان قائماً ومفهوماً فى الوقت الذى كان فيه دستور ١٩٧١ نافذا لم يسقط بعد، أما بعد سقوط الرئيس وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم بشرعية الثورة وحدها، وعلى خلاف ما ينص عليه الدستور، فلم يكن ثمة منطق سياسى أو قانونى لا لتعطيل الدستور ولا لتشكيل لجنة لتعديل الدستور الساقط الذى عُطّل.
كان من المأمول أن تتصدى لجنة تعديل الدستور، وهى تضم كوكبة مرموقة من شيوخ القضاء وفقهاء القانون، لهذه المسألة الأصولية المبدئية، ويعلم رجال القضاء والقانون أن بحث القاضى فى مسألة ولايته يسبق بداءة البحث فى الموضوع لكونه يتعلق بمفهوم النظام العام وبمشروعية ما هو مقدم عليه من عمل، ولكن اللجنة تجاوزت عن هذا البحث الأصولى رغم ضرورته وبداهته، وانطلقت فى مهمتها فعدّلت بعض المواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية وبتعديل الدستور وتغييره ووضع دستور جديد. وبعيدا عن خلافنا أو اتفاقنا مع ما انتهت إليه اللجنة من تفصيلات فى هذه المادة أو تلك، فلاشك أن جهد اللجنة قد أسفر عن نتائج لم تكن تدور فى خلد المصريين منذ أسابيع مضت، وكانت تُعتبر من قبيل الآمال والأحلام المستحيلة، أسفر عمل اللجنة عن تحرير نصوص الترشح لمنصب الرئيس من قيود ثقيلة كانت موضوعة لهدف يعلمه المصريون جميعا،
 ومع ذلك فقد كان أمرا مثيرا للتأمل ثم للريبة ثم للتوجس أن تتضمن التعديلات نصاً مستحدثاً حمل رقم ١٨٩ مكرر يوجب على الأعضاء المنتخبين فى أول مجلسين للشعب والشورى أن يشكلوا لجنة من مائة عضو لوضع دستور جديد، وكان اللافت للنظر وفقا لمقتضى تعديلات المادة ٧٦ أن انتخابات مجلسى الشعب والشورى يجب أن تجرى أولا قبل انتخاب الرئيس. معنى هذا أن مجلسين للشعب والشورى سينتخبان بعد شهور قليلة مطلوب منهما أن يشكلا لجنة من داخلهما أو من خارجهما أو لجنة مشتركة لوضع دستور جديد، ولم تقيد المادة ١٨٩مكرر مجلسى الشعب والشورى بأى ضوابط أو معايير فى تشكيل لجنة وضع الدستور كأن تكون هذه اللجنة ممثلة لكل تيارات الأمة وشرائحها وطوائفها. لقد جعل النص المقترح سلطة المجلسين مطلقة فى تشكيل لجنة وضع الدستور الجديد، فلا غرو إذن أن شاع اعتقاد بين الناس أن مجلسين سيُنتخبان من القوى الجاهزة تنظيميا، وهما الإخوان المسلمون والحزب الوطنى، سيتحكمان فى مستقبل البلاد لعقود مقبلة عن طريق إطلاق أيديهما فى تشكيل لجنة وضع الدستور.
ومما أكد هذا الظن وزاده رسوخا لدى قطاعات واسعة من المصريين أن القوى السياسية الوحيدة التى أعلنت قبولها التعديلات هى الإخوان المسلمون والحزب الوطنى ومن شايعهما من التيارات الدينية، وأخذت المعركة الدعائية الإخوانية فى الدفاع عن التعديلات منحى حماسيا مثيرا للدهشة وللريبة معا، إذ أخذ ممثلو الإخوان يروجون بحماس زائد لهذه التعديلات كما لو كانت المسألة مسألة وجود وليست مسألة خلاف سياسى أو قانونى على نصوص ذات طابع فنى بحت لا شأن لثوابت الدين أو فروعه بها، وإلا فليدلنى أحد على دليل شرعى يرجح شروط الترشح لمنصب الرئيس أو مدد ولايته أو إشراف القضاة على انتخابه على هذا النحو دون ذاك، وتم الترويج لدعاوى كاذبة أن المادة الثانية من الدستور فى خطر من عدم الموافقة على التعديلات، وأن المصوتين بعدم الموافقة يتنكرون لواجبهم الشرعى، مما أكسب الاستفتاء على التعديلات طابعا دينيا غريباً عنها، بل وطابعا طائفيا ما كان يجب أن يكون،
وتساءل البعض: إذا كانت مسألة الإيمان وعدم الإيمان قد طُرحت عند الخلاف القانونى على تعديلات فنية، فكيف يكون الأمر إذن عندما يصل ممثلو التيارات الدينية للحكم وتعرض أمور تدعو للخلاف السياسى أو الفكرى؟ ألن تكون مقاصل التكفير جاهزة للمعارضين فى الرأى رغم كل دعاوى الدولة المدنية التى سبق رفعها، كان هذا هو الاختبار الأول فى الديمقراطية الذى رسب فيه الإخوان المسلمون عن جدارة.
ما علينا، طُرحت التعديلات للاستفتاء، وجاءت النتيجة فى صالح الموافقة عليها بأغلبية كاسحة، وخرج كُتّاب التيار الإسلامى يعلنون الشماتة والاستخفاف بمن قالوا لا من ممثلى التيارات الأخرى، وطالبهم بعض الشيوخ بحجز تأشيراتهم للهجرة خارج الوطن لأن البلد قد أصبح بلد التيار الإسلامى وحده، فهل كان المصوّتون على التعديلات بعدم الموافقة على حق إذن فى توجسهم من أن هذه التعديلات تخفى فى طياتها نذرا بوضع دستور يهدد مدنية الدولة؟ ورغم ذلك فقد اتهمهم شيوخنا الأجلاء من كبار المؤرخين والفقهاء بأنهم خائفون من الديمقراطية، وتجاهل المحذرون من الخوف من الديمقراطية ما سبق أن رددوه فى كتاباتهم السابقة من أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابى بل تتطلب بنية أساسية من الأحزاب السياسية القادرة والنقابات الفاعلة ومنظمات المجتمع المدنى المؤثرة فى إطار عام من حرية التعبير والتنظيم، الديمقراطية بحق ليست قفزا على الواقع بنصوص لا يحتملها الواقع، وليست انتهازا للفرص السياسية، وليست إشاعة للشحناء والبغضاء بين أطياف الأمة، وليست تديينا للخلافات القانونية والسياسية بل هى ضد ذلك كله.
انتهى غبار معركة مفتعلة للاستفتاء على التعديلات استعرضت فيها القوى المؤيدة للتعديلات عضلاتها لغير ما هدف إلا مجرد إظهار القوة حول قضية تحتمل ألف اختلاف، وجاء وقت جنى الثمار والغنائم وتمخض الأمر على أنها معركة بلا نتائج أو غنائم. معركة دارت بين طرفين: تيارات اكتسبت قوتها تاريخيا من تحدى الشرعية، وأخرى أدى طول امتثالها لأطر الشرعية إلى ضعفها وهزالها.
كان مؤدى إقرار تعديلات الدستور أن يعاد الدستور إلى النفاذ بنصوصه المعدلة وغير المعدلة، وأن يُفك أسر التعطيل المؤقت، هذا هو مقتضى المنطق القانونى واللغوى للفظ التعطيل أو الإيقاف، التعديل لغة فى معاجمها هو تقويم الشىء وإصلاحه ليصبح معتدلا بعد أن كان معوجا (راجع مختار الصحاح، مادة عدل). ولا تعديل إلا لما هو قائم، ولا إصلاح لمعدوم، والتعديل قانونا هو إلغاء جزئى لبعض نصوص القانون وإبدال غيرها بها مع بقاء باقى نصوص القانون على حالها، ولكننا فوجئنا بمعنى آخر للتعديل، إذ خرجت التصريحات من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومشرعيه بأن الدستور المعطل لن يعود للعمل وإنما ستعود النصوص المعدلة فقط مضافا إليها بعض النصوص الأخرى التى تحكم الفترة الانتقالية لتشكل كل هذه النصوص المعدلة والمستفتى عليها والنصوص المضافة غير المستفتى عليها، إعلاناً دستورياً ينفذ حتى وضع دستور جديد، وسادت مصر حالة من الدهشة الجماعية البالغة، وبديهى أن يثار السؤال: لماذا كان تعطيل الدستور إذن ولم يحدث إلغاء له منذ البداية ما دمنا لن نعيده للحياة أبدا؟ ولماذا كُلفت لجنة من الفقهاء بتعديل بعض نصوص الدستور ولم تُكلف هذه اللجنة بصياغة إعلان دستورى متكامل؟ ولماذا كان الاستفتاء على بعض النصوص مع عدم استفتاء الشعب على نصوص أخرى ستوضع فى الإعلان الدستورى وقد تنطوى فى الغالب على حسم رؤى وخيارات سياسية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لن نعثر عليها فى أدبيات فن صناعة القانون إلا إن كانت من قبيل الأسئلة الاستنكارية، ولكننا قد نجد هذه الإجابات فى السياقات والنتائج السياسية المترتبة على منهج إدارة المسألة الدستورية، إذ لو عاد دستور ١٩٧١ للنفاذ بعد تعديل بعض نصوصه فسيفقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة شرعيته، لأن الدستور حتى فى نصوصه المعدلة لا يمنح المجلس العسكرى أى شرعية، بل سيعود أمر الرئاسة المؤقتة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا الذى عليه أن يجرى انتخابات الرئيس قبل ستين يوما من تاريخ خلو المنصب (م ٨٤)، وهذه نتيجة لا يمكن تحملها سياسياً، (ولمجرد العلم كان من الممكن تدارك هذا المأزق بنص مؤقت يضاف للتعديلات يعطى صلاحيات للمجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى انتخاب الرئيس الجديد).
                                    ■ ■ ■
يقينى أن المؤرخين لاحقاً لهذه الفترة من تاريخ مصر الدستورى ستعتريهم الدهشة والعجب من تعامل المصريين، ساسة وقانونيين، مع مسألة الدستور عقب ثورتهم فى ٢٥ يناير ٢٠١١. وربما يجد بعضهم ضالة حيرته لدى علماء النفس الاجتماعى بقولهم إن حالة من التلعثم والارتباك الاجتماعى قد أصابت المجتمع المصرى فى هذه الفترة الحرجة من الزمان، هذا إن افترض المؤرخون اللاحقون حُسن نية المُشرعين والساسة السابقين.