نوفمبر 17، 2012

ماهذه بثورة

    هذه ترجمة للورقة المعنونة "ماهذه بثورة" والتي كتبها حسين أغا و روبرت ماللي، والمنشورة في مجلة نيويورك للكتب في 8 نوفمبر 2012. والنص الانجليزي للورقة على الرابط التالي
 
 
أحمد صادق
  
 
 

ماهذه بثورة

 

8 نوفمبر 2012

 

 

حسين أغا، وروبرت ماللي

 

كلها أكاذيب وهزل

فالانسان مازال يستمع الى مايريد أن يسمع

ويغض الطرف عن كل ماعداه

                 أغنية الملاكم – بول سيمون

 

ينسدل الظلام على العالم العربي. الخراب والموت والدمار تلازم النضال من أجل حياة أفضل. القوى الأجنبية تتنافس من أجل النفوذ، وتقوم بتسوية الحسابات. وتصبح ذكريات بعيدة، تلك المظاهرات السلمية التي بدأ بها كل شيء، وتلك القيم السامية التي كانت تلهمها. أما الانتخابات، فهي مناسبات احتفالية تصبح معها الرؤى السياسية أشياء للتفكير فيها فيما بعد. البرنامج الوحيد المتماسك هو برنامج ديني، يجد الهامه في الماضي. والتدافع نحو السلطة قد انفلت، وهو صراع على السلطة ليست له قواعد واضحة، ويفتقر الى القيم، ولا تعرف له نقطة نهاية. فهو صراع لاينتهي، سواء تغير النظام، أم بقي على قيد الحياة. التاريخ لايتحرك الى الأمام. التاريخ يتعثر منزلقا الى جوانب الطريق.

 

تتداخل ألاعيب السياسة: فهناك المعارك ضد الأنظمة الاستبدادية، وصدام مذهبي بين السنة والشيعة، والصراع الاقليمي على النفوذ، وحرب باردة يعاد تشكلها من جديد. تلوح بوادر انقسام الأمم، وتستيقظ الأقليات،  وتتحسس طريقها للافلات من القيود الخانقة للدولة. تبدو الصورة ضباببة. وليس هذا كله سوى أجزاء تتحرك بسرعة لمشهد يتشكل، دون أن تعطي سوى اشارات متناقضة لمآلاتها النهائية.

 

 

 

والتغييرات التي تبدو أمورا جوهرية الآن، هي عرضة لأن تفقد اعتبارها، وأن يجري النظر اليها بوصفها مجرد أشياء طريفة على طريق رحلة ممتدة.

 

تندفع الى المقدمة قوى فاعلة جديدة ، أو قوى فاعلة انتعشت حديثا: "فالشارع" غير واضح المعالم، وسرعان ماتنفض الحشود التي تجري الدعوة لحشدها - فالثوار الشباب الذين كانوا يحتلون مركز الانتفاضة، قد أصبحوا في أعقابها ضحايا طريق قليلي الأهمية. أما الاخوان المسلمون، الذين كان الغرب يرفضهم بالأمس باعتبارهم قوى تطرف خطرة، فيجري الآن احتضانهم والاحتفاء بهم بوصفهم أناس عقلاء، عمليون وجادون. والسلفيون الأكثر أصولية، وهم من كانوا ينفرون من كل أشكال السياسة، أصبحوا اليوم يتحمسون للمنافسة في الانتخابات. هناك كذلك في الظل، جماعات وميليشيات مسلحة، ذات ولاءات غامضة، وفاعلو خير واحسان مجهولون، بالاضافة الى عصابات، ومجرمين، وقطاع طرق، ومحترفو خطف.

 

 

تنقلب التحالفات السياسية رأسا على عقب، بما يستعصي على أي منطق، وتبدو غير مألوفة ومتغيرة. فنرى أنظمة دينية تدعم أنظمة علمانية ـ  ونرى نظما استبدادية ترعى الديمقراطية - وتصنع الولايات المتحدة علاقات مشاركة مع الاسلاميين - واسلاميون يؤيدون تدخلات عسكرية غربية. ينحاز قوميون عرب الى أنظمة طالما حاربوها - يصطف ليبراليون مع اسلاميين وسرعان مايشتبكون معهم. تدعم السعودية علمانيين ضد الاخوان المسلمين، كما تدعم سلفيين ضد علمانيين.  تتحالف الولايات المتحدة مع العراق، والعراق يدعم النظام السوري، الذي تعمل الولايات المتحدة على الاطاحة به.  كما تتحالف الولايات المتحدة مع قطر، التي تقوم بدعم حماس، و تتحالف مع السعودية التي تقوم بتمويل السلفيين، الذين يلهمون المجاهدين الذين يقتلون الأمريكيين حيثما استطاعوا.

 

وفي وقت قياسي، تحولت تركيا من دولة دون مشكلة واحدة مع جيرانها، الى دولة غارقة في المشكلات معهم. فهاهي تتباعد مع ايران، وتغضب العراق، وتدخل في نزاع مع اسرائيل. وهي فعليا في حرب مع سوريا. أكراد العراق الآن هم حلفاء أنقرة، بالرغم من أن تركيا تشن حربا على أكرادها الأتراك، وعلى الرغم من أن سياساتها في العراق وفي سوريا  تقوي النزعات الانفصالية في تركيا نفسها.

 

 

 

على مدى سنوات، عارضت ايران الأنظمة العربية، وأخذت تنمي علاقاتها مع الاسلاميين الذين تشعر أن بمقدورها بناء قضية مشتركة مع منظورهم الديني. وحالما يصل هؤلاء الاسلاميون الى السلطة فانهم يسعون الى طمأنة أعدائهم السابقين من الغربيين والسعوديين، ويباعدون أنفسهم عن طهران، على الرغم

 

من تودد ايران اليهم. ووجد النظام الايراني نفسه مدفوعا الى تنويع تحالفاته، وأن يتواصل مع غير الاسلاميين الذين يشعرون بالاستبعاد من قبل النظام الجديد ويشعرون بالذعر من تنامي علاقات مشاركة بين الاسلاميين والولايات المتحدة. ولدى ايران خبرة في مثل هذه الأمور: فخلال العقود الثلاثة الماضية تحالفت مع سوريا العلمانية، على الرغم من أن دمشق كانت تقمع اسلامييها.

 

حين تتقارب الأهداف، تختلف الدوافع. فالولايات المتحدة قامت بالتعاون مع الملكيات والمشيخات العربية في الخليج بالأمس من أجل الاطاحة بالقذافي، واليوم من أجل معارضة الأسد. وهي تعلن أن عليها أن تكون على الجانب الصحيح من التاريخ. والحال، أن تلك الأنظمة لاتحترم في بلادها تلك الحقوق التي تسعى وراءها بخشوع في الخارج. ان أهدافهم ليست الديمقراطية ولا المجتمعات المفتوحة. انهم منخرطون في صراع من أجل الهيمنة الاقليمية. فأي شيء، غير الغنى والثروة، يمكن للمنادين بما يسمونه الانتفاضة الديمقراطية، أن يجدوه في بلاد يجسد نظام الحكم فيها حرمانا كنسيا للمشروع الديمقراطي الذي يزعمون تأييده؟

 

يرتكز نظام التحالفات الجديد على العديد من الافتراضات الزائفة، كما يخفي العديد من التضاربات العميقة. انه ليس نظاما صحيا، لأنه لايمكنه أن يكون حقيقيا. هناك خطأ. هناك ماهو غير طبيعي. وذلك لايمكنه أن يؤدي الى نهاية طيبة.

 

حرب اعلامية بدأت في مصر وبلغت أوجها في سوريا. كل جانب يظهر مايريد، ويضخم الأرقام، ويهمل الباقي. في البحرين، يحدث العكس، فمهما بلغت أعداد المعارضين للنظام الذين حضروا، قلا يتم احصاء سوى قلة ضئيلة منهم. فهم لاوزن لهم على مقياس الاهتمام. وقبل وقت قصير، كانت المشاهد من ليبيا تمجد مقاتلين يرتدون ثياب المهرجين، ويعقدون على رؤوسهم عصابات زاهية الألوان، ويلقون بخطب النصر الرنانة. أما المعارك الحقيقية، تلك المعارك الدموية من السماء في معظم الأحيان، فقد كانت محتدمة في أماكن أخرى. وأما الضحايا، فقد تم اخفاؤهم من المشهد.

 

 

تجمعت الحشود في ميدان التحرير. وتركزت العدسات المكبرة للكاميرات على المحتجين. ولكن، ماذا عن الملايين غير المرئية الذين قبعوا في بيوتهم؟ ترى هل ابتهجوا بالاطاحة بمبارك، أم تراهم في هدوء قد شعروا بالحسرة على رحيله؟ كيف هي مشاعر المصريين ازاء الفوضى الراهنة، والقلاقل، والانهيار الاقتصادي، وغموض الأوضاع السياسية؟ في الانتخابات التي تلت الاطاحة بمبارك، فان 50 في المائة لم يقوموا بالتصويت. ومن بين أولئك الذين قاموا بالتصويت، فان نصفهم قد صوتوا لصالح المرشح الذي يمثل النظام القديم.

 

من ذا الذي سوف يهتم بأمر أولئك الذين يقفون على الجانب الآخر المقابل للجانب الصحيح من التاريخ؟

 

ان غالبية السوريين يقاتلون، لادفاعا عن النظام ولا تأييدا للمعارضة. انهم من يتحمل النتائج النهائية لهذه المواجهة الشريرة، فتمضي أمانيهم بلا مجيب، وأصواتهم لايسمعها أحد، ومصائرهم في عداد النسيان. أصبحت الكاميرا جزءا لايتجزأ من الاضطرابات، أداة للحشد وللدعاية وللاثارة. واختلال الميزان العسكري لصالح الأنظمة القديمة، يتم تعويضه بدرجة فائقة بذللك الاختلال في الميزان الاعلامي لصالح القوى الجديدة.  كانت لدى النظام الليبي السابق خطب القذافي الغريبة - أما سوريا الأسد فتعتمد على جهاز الدولة الاعلامي سيء السمعة. نحن لسنا ازاء منافسة حقيقية. ففي معركة كسب تعاطف الرأى العام، في عصر غسيل الأخبار، لايمكن أبدا للأنظمة القديمة أن تصمد في المنافسة.

 

لم تظهر شخصية بارزة ذات قامة تكون موضع اتفاق، ويمكنها أن تشكل طريقا جديدا، لافي تونس ولا في مصر واليمن وليبيا وسوريا ولا البحرين. هناك فقر في القيادة. وحيثما وجدت قيادة، فانها تتجه لاتخاذ شكل لجان. وحيثما وجدت لجان، فانها تنبثق بشكل غامض، وتمنح نفسها سلطات لم يقلدها لها أحد.  وفي أكثر الأحوال، فان الشرعية تضفى عليها من الخارج: الغرب يضفي عليها الاحترام ويسلط الضوء، ودول الخليج العربية تمدها بالمال والدعم – والمنظمات الدولية تمنحها الشرعية والمساعدة.

 

وعلى الأغلب فان اولئك الذين يتولون السلطة، يفتقرون الى القوة التي تمنحها لهم قاعدة انتخابية واضحة ومؤيدة لهم على النطاق الوطني - فيحتاجون الى اعتراف الخارج بهم، وهكذا يكونون مضطرين الى أن يكونوا متعقلين، والى ضبط مواقفهم لتتلاءم مع مايقبله الخارج. أما القادة الذين ظهروا في أعقاب ثورة فلا تحكمهم نفس الاعتبارات. فبغض النظر عن حقيقة الوضع، فقد كانوا يتمسكون باستقلاليتهم بعناد، ويشعرون بالعزة وهم يرفضون التدخل الأجنبي.

 

يقوم الاسلاميون بمهادنة الغرب واسترضائه، دون أن يختلفوا في ذلك عن الحكام الذين شاركوا في الاطاحة بهم. وهم كذلك لايختلفون عن أولئك الحكام الذين حلوا محلهم، والذين كانوا يستخدمون الاسلاميين كفزاعة، للابقاء على تأييد الغرب لهم، فالاخوان المسلمون يلوحون بشبح من يمكن أن يخلفهم اذا ماسقطوا الآن: السلفيون، الذين بدورهم، وبدون أن يختلفوا عن اخوان الزمن الغابر، نراهم ممزقين مابين الاخلاص لمبادئهم ومابين مذاق السلطة.

 

انها لعبة كراس موسيقية. ففي مصر نرى السلفيين يلعبون الدور الذي سبق وأن لعبه الاخوان المسلمون - والاخوان المسلمون يلعبون الدور الذي قام به يوما نظام مبارك. في فلسطين، الجهاد الاسلامي هو حماس الجديدة -  يطلقون الصواريخ ليحرجوا حكام غزة - وحماس، فتح الجديدة، تدعي أنها حركة مقاومة، بينما هي تقمع اولئك الذين يجرؤون على المقاومة - فتح، هي نسخة من الديكتاتوريات العربية القديمة، التي اصطدمت بها يوما. ترى كم يبعد ذلك اليوم الذي يطرح فيه السلفيون أنفسهم للعالم بوصفهم البديل الأفضل للمجاهدين؟

 

تنحصر السياسة المصرية مابين الاتجاه الغالب المنتصر للاخوان المسلمين، والسلفيين الأكثر تشددا، والقوى القلقة غير الاسلامية، وبقايا النظام القديم. ويبدو المستقبل السياسي غامضا لدى مسعى الاخوان المسلمين المنتصرين للتوصل الى ترتيبات مع الباقين. توحي السرعة والكياسة التي اتسمت بها الطريقة التي قام بها الرئيس الجديد، محمد مرسي، باحالة القادة العسكريين القدامى الى الاستيداع أو الابعاد، وكذلك الهدوء الذي طبع الترحيب بهذا التحرك الجسور، بأن الاسلاميين قد أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم، وأنهم يرغبون في الحركة بسرعة أكبر.

 

 

أما في تونس فالقصة تبدو مشوشة. لقد جرى التحول بشكل سلمي الى حد بعيد -  وقدم حزب النهضة، الذي فاز في انتخابات اكتوبر الماضي، وجها براجماتيا معتدلا للاسلام. لكن مساعيه الحثيثة لتركيز السلطة أصبحت مصدرا للتوتر. وأخذت الشكوك تتصاعد بين العلمانيين والاسلاميين -  وتتخذ الاحتجاجات الاقتصادية الاجتماعية طابعا عنيفا في بعض الأحيان. ويتربص السلفيون على الأطراف، وهم يهاجمون رموز المجتمع الحديث، كما يهاجمون حرية الكلام والمساواة بين المرأة والرجل.

 

 

 

وفي اليمن، فقد أصبح الرئيس السابق صالح خارج السلطة، لكنه ليس خارج خشبة المسرح. وتتخلق حرب في الشمال، وأخرى في الجنوب. ويستعرض المجاهدون عضلاتهم. على حين لم يتبق للثوار الشباب الذين حلموا بالتغيير الشامل، الا أن يكتفوا بالفرجة على مختلف الجماعات من النخبة القديمة نفسها وهي تعيد ترتيب الأوراق. بينما يرعى السعوديون والايرانيون والقطريون، كل جماعته الخاصة في اليمن.

 صدامات صغيرة، يمكنها أن تتصاعد الى مجابهات كبرى. وفي نفس الوقت، تقوم الطائرات بدون طيار، التابعة للولايات المتحدة، باستئصال نشطاء تنظيم القاعدة، وكل من تصادف وجوده على مقربة.

 

ويوما بعد يوم، تتخذ الحرب الأهلية في سوريا لونا طائفيا أشد قبحا. لقد أصبحت البلاد حلبة لحروب بالوكالة لصالح قوى في المنطقة. وتتكون المعارضة من تشكيلة انتقائية من الاخوان المسلمين والسلفيين والمتظاهرين السلميين، ومقاتلين مسلحين وأكراد وجنود فارين من الخدمة وعناصر من قبائل ومقاتلين أجانب. ومامن شيء يمكن استبعاده في خيال النظام أو خيال المعارضة في صراعهم اليائس من أجل الانتصار. الدولة والمجتمع والثقافة القديمة، كلها تنهار . يحتوي هذا الصراع على المنطقة كلها بداخله.

 

المعركة في سوريا هي كذلك معركة من أجل العراق. فالدول العربية السنية لم تتقبل خسارة بغداد لصالح الشيعة، وهو مايبدو في عيونهم خسارة لصالح الايرانيين الصفويين. واستيلاء السنة على السلطة في سوريا سوف ينعش حظوظ زملائهم في العراق. ويجري تشجيع المقاتلين السنة في العراق كما تجري اعادة احياء تنظيم القاعدة. وفي حالة حدوث حرب لاعادة فتح العراق، فسوف يدخل جيرانه هذه الحرب. وعلى حين ينصب اهتمام المنطقة على سوريا، فان هاجس العراق يسيطر عليها.

 

الاسلاميون في المنطقة ينتظرون نتائج الصراع في سوريا. وهم غير راغبين في أن يقضموا أكثر مما يستطيعون مضغه. واذا كان الصبر هو المبدأ الأول للاسلامي، فان ترسيخ المكاسب هو المبدأ الثاني. واذا ماكان لسوريا أن تسقط، فقد يكون الدور بعدها على الأردن. فتركيبته السكانية الخاصة - أغلبية فلسطينية تخضع لأقلية شرق أردنية - كانت مصدر نعمة للنظام: فالجماعتان كلتاهما لديهما أسباب عميقة للشكوى من الحكام الهاشميين، وفي نفس الوقت فان حالة الشك وانعدام الثقة بينهما تبدو أعمق. ويمكن لهذا الوضع أن يتغير بفعل القوة التوحيدية للاسلام، الذي لايقيم كبير وزن، نظريا على الأقل، لمسألة العرق.

     

 

 

 

وربما يجيء دور الكيانات الأضعف بعد ذلك. ففي شمال لبنان تقوم الجماعات الاسلامية والسلفية بدعم نشيط للمعارضة السورية، التي تشعر أن لديها ماهو مشترك معها بأكثر مما هو الحال مع الشيعة والمسيحيين اللبنانيين. فلبنان بوصفها اصطناعا هشا منذ البداية، وجدت نفسها عرضة للشد والجذب في اتجاهات متصارعة: فالبعض قد ينظرون بعين الحسد الى سوريا جديدة تحت حكم سني، وربما يتوقون الى الانضمام اليها. آخرون، قد ينظرون اليها بهلع وشعور باليأس.

 

 

وفي البحرين، تهدف ملكية سنية الى الحفاظ على السلطة والامتيازات، فتقمع بالعنف الأغلبية الشيعية. وقد خفت السعودية ودول خليجية أخرى الى نجدة حليفهم. والغرب، الذي يرفع الصوت صاخبا في أماكن أخرى، يصيبه هنا الخرس. وحين جرت الانتخابات في ليبيا، لم يبل الاسلاميون بلاء حسنا - وظن خصومهم أنهم قد احرزوا أخيرا انتصارهم اليتيم في بلد تنعدم فيها تقاليد الانفتاح السياسي، وليست لديها دولة، وتطفح بالميليشيات المسلحة التي تنخرط في صدامات مميتة مستمرة.  وفي السعودية، تصارع زعامة في العقد التاسع من العمر، التحولات الوشيكة، وتعيش في رعب من ايران ومن شعبها نفسه، وتوزع احسانا ماليا لعلها تتقي شر السخط الشعبي. حتام يمكن لذلك كله أن يستمر؟

 

 

سوف تسقط الأنظمة في بعض البلاد، بينما ستتمكن من الاستمرار في الحياة في بلاد أخرى. وليس من المحتمل أن يتم سحق القوى المهزومة. سوف تعيد تجميع نفسها، وتقوم بهجوم مضاد. ميزان القوى ليس واضح المعالم. وليس من المحتم أن يزداد المنتصر قوة، كنتيجة لانتصاره.

 

هؤلاء الذين في السلطة، يسيطرون على جهاز الدولة، لكن ذلك قد يبرهن على أنه ميزة ضئيلة القيمة.   فأجهزة الدولة العربية تعاني من  ضعف أصيل وشرعية هزيلة، وينظر اليها مواطنوها بعيون الشك، وبوصفها جهازا دخيلا جرى فرضه من أعلى على تركيبات اجتماعية مألوفة، وذات جذور أعمق، ولديها تاريخ طويل ممتد. ورجال الدولة لايتمتعون لا بالقبول ولا بالسلطة والهيبة التي يتمتع بها نظراؤهم في أماكن أخرى. وحين تهب الانتفاضات، تضمحل أكثر فأكثر قدرة هذه الدول على العمل، ماأن تنهار قدرتها القمعية.  

 

 

 

لايعني الوجود في كراسي السلطة، أنك تمارس السلطة. فتحالف 14 مارس الموالي للغرب في لبنان، والذي كان منتعشا وهو في المعارضة، أصابه الضعف حين شكل الوزارة في 2005. وحزب الله، لم يكن يوما في حالة دفاع عن النفس ولا أقل استمتاعا بالنفوذ المعنوي منه منذ أصبح القوة الرئيسية خلف الحكومة. فمن هم خارج السلطة، بتعرضون لقيود أقل. ان لديهم ترف التنديد بفشل حكامهم، تلك الحرية
التي تقترن بغياب المسئولية. وفي الشرق الأوسط، المليء بالثقوب وبالاستقطابات، فانهم يسعدون باللجوء الى الدعم الخارجي المتاح بسهولة.

 

حين تكون في السلطة، وتدير قنوات الدولة الرسمية، فبوسع ذلك أن يطلق اليد، بنفس القدر الذي يمكنه أن يغل اليد. فالانسحاب العسكري السوري من لبنان في 2005، لم يقلص من نفوذ سوريا. فقد أخذت سوريا تمارس نفوذها في الخفاء، بدون أن تكون في وهج الضوء وبدون أن تكون عرضة للحساب. وفي الغد، فان عملية مشابهة يمكنها أن تشمل سوريا نفسها. فانهيار النظام يمكنه أن يكون ضربة مؤثرة لايران وحزب الله، ولكن ترى الى أي حد يمكن أن يكون تأثيره التدميري عليهما. في صبيحة صراع طويل عنيف كهذا، فالاحتمال الأكبر هو أن نشهد حالة من الفوضى، لاحالة من الاستقرار، صراعا على السلطة وليس حكومة مركزية قوية. سوف تسعى القوى السياسية المهزومة والمستبعدة الى طلب المساعدة من أي مصدر، سوف تلتمس الدعم من سادة أجانب بغض النظر عن هويتهم. استثمار الفوضى هي ممارسة يتقنها حزب الله وايران أكثر كثيرا من أعدائهم. حين يصبحون بلا نظام سوري، كان عليهم أن يراعوا مصالحه، وكان عليهم أن يلتزموا بالقيود التي كان يفرضها، فسوف يطلق ذلك أيديهم بحرية أكبر.

 

الاخوان المسلمون ينتصرون. فالرئيس المصري الجديد المنتخب قد جاء من بين صفوفهم. انهم يحكمون في تونس. يسيطرون على غزة. لقد انتصروا في المغرب. في سوريا والأردن كذلك، ربما تكون ساعتهم قد دنت.

 

الاخوان المسلمون ينتصرون: تلك كلمات جلل، وحتى عهد قريب لم يكن من الممكن تصورها، ولا من الممكن أن ينطقها أحد. استطاع الاخوان أن يبقوا على قيد الحياة ثمانين سنة تحت الأرض وفي الجحور، يطاردون بلا رحمة، يعذبون ويقتلون، يرغمون على المساومة وعلى الاتنظار بصبر الى أن تأتي لحظتهم. القتال بين الاسلام وبين القومية العربية اتخذ مسارا طويلا ومتعرجا ودمويا. ترى، هل دنت لحظة نهايته؟

 

 

الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من صعود الامبريالية الأوربية، وضعت حدا لأربعة قرون من الحكم الاسلامي العثماني. وبين كر وفر، فربما أصبح القرن التالي قرنا للقومية العربية. وبالنسبة للكثيرين، فان ذلك كان شيئا دخيلا، غير طبيعي، واستيرادا من الغرب لا يتسم بالأصالة -  انحرافا توسلوا أن يتم تصحيحه. وحين فرض عليهم أن يعدلوا وجهة نظرهم، فقد أعلن الاسلاميون اعترافهم باطار الدولة القومية والحكم اللاديني. الا أن طريدتهم ظلت اولئك الزعماء القوميين وخلفاءهم المسخ.

 

في السنة الماضية، شارك الاخوان في الاطاحة برئيسي تونس ومصر، الخليفتين الكالحين للزعيمين القوميين الأصليين. لكن الاسلاميين يحتفظون في أذهانهم بخصمين أكبر قيمة وأكثر خطورة. لقد صوبوا ضرباتهم ضد بن علي ومبارك، لكن الأباء المؤسسين - الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر - كانا في خواطرهم. انهم يحسبون أنهم قد قاموا بتصحيح التاريخ. ويظنون أنهم قد بعثوا الى الحياة عصر (المسلمين بلا حدود)

 

ماذا يمكن أن يحمل ذلك كله من معنى؟ يكره الاسلاميون أن يشركوا أحدا في سلطة تم الحصول عليها بثمن كبير، كما يكرهون أن يفرطوا في مكاسب جنوها بعد صبر طويل. ان عليهم أن يوازنوا مابين رجالهم وشبابهم الجامحين، وما بين مجتمع أكبر يشعر بالقلق والتوتر، وما بين مجتمع دولي لايتفق على رأي. من ناحية، يشدهم الاغراء بأن يضربوا بسرعة، بينما تجذبهم الرغبة في بث الاطمئنان الى ناحية أخرى. وبوجه عام، فلسوف يفضلون أن يتجنبوا الارغام، ,ان يوقظوا الناس على طبيعتهم الاسلامية النائمة، بدلا من فرضها عليهم عنوة. لسوف يحاولون أن يقوموا بكل شيء: أن يحكموا، وأن يضعوا باطراد تشريعات للتحولات الاجتماعية، وأن يكونوا صادقين مع أنفسهم دون أن يصبحوا مصدر تهديد للآخرين.

 

يعرض الاسلاميون صفقة. في مقايل المعونة الاقتصادية والدعم السياسي، فانهم لن يقوموا بتهديد مايعتقدون أنه جوهر المصالح الغربية: الاستقرار الاقليمي، اسرائيل، الحرب ضد الارهاب، وتدفق الطاقة. لاتعريض للأمن الغربي للخطر. لاحرب تجارية. المواجهة الحاسمة مع الدولة اليهودية يمكنها أن تنتظر. يتم التركيز على تشكيل المجتمع الاسلامي ببطء وثبات. وربما تعبر الولايات المتحدة وأوروبا عن قلقهم، وحتى عن استيائهم، ازاء مثل هذه التغييرات الداخلية. لكنهم سوف يتجاوزونها ويغضون الطرف عنها. تماما مثلما يغضون الطرف عن الأصولية المتشددة في العربية السعودية. مقايضه - على طريقة ، نحن نهتم بما تحتاجون، فاتركونا نهتم بأمورنا - فهكذا يشعر الاسلاميون بان ذلك يمكنه أن ينجز المهمة. واذا نظرنا الى التاريخ، فهل يمكننا أن نلومهم؟ 

 

 

لقد جرت الاطاحة بمبارك، في جانب من الأمر، بسبب ماكان يبدو للأعين منه خنوعا بالغا للغرب، والآن فان الاسلاميين الذين خلفوه قد يقدمون للغرب صفقة ألذ بسبب كونها صفقة قابلة للاستمرار. انهم يظنون أن بمقدورهم أن يقوموا بما لم يمكنه القيام به. فبعد أن تجرد مبارك من عباءته القومية، لم يعد لديه مايستره، فكان ديكتاتورا عاريا. وبالمقارنة، فان الاخوان المسلمين لديهم برنامج أبعد مدى بكثير - أخلاقيا واجتماعيا وثقافيا. يشعر الاسلاميون أنه مازال بمقدورهم أن يحافظوا على معتقداتهم، حتي اذا لم يكونوا صادقين في مواجهة الغرب. بوسعهم أن يكونوا معتدلين، أن بموهوا الأشياء، أن يقوموا بالتسويف والتأجيل.

 

لقد سمع صوت الاسلاميين وهم يدعون الى التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا بالأمس، وفي سوريا اليوم، وهو أمر يختلف عما كان يفعله اولئك الذين حل الاسلاميون محلهم من حلفاء الغرب الحميمين، ويفعل الاسلاميون ذلك حيثما خامرت أنفسهم الآمال بأن السلطة سوف تكون لهم. انهم لايتورعون عن استخدام الكفار الأجانب، الذين لن يقيموا طويلا، من أجل القاء الكفار المحليين في البحر، أولئك الكفار الذين طاردوا الاسلاميين بقسوة على مدى عقود. ان رفض التدخل الأجنبي الذي كان يوما في الصدارة من منظور مابعد الاستقلال ، لم يعد اليوم على الموضة. ان هذا المبدأ يدان بوصفه من مبادئ الثورة المضادة.  

 

 وما كانت الولايات المتحدة تسعى للحصول عليه على مدى عقود، بوسائل التدخل السياسي وفرض المواقف، فربما تحصل عليه اليوم بالرضى والقبول: أنظمة عربية لاتتحدى المصالح الغربية. ولاعجب اذن في أن الكثيرين في المنطقة يعتقدون أن الولايات المتحدة كانت طرفا شريكا في صعود الاسلاميين، شريك سري فيما جرت به المقادير.

 

تواجه اسرائيل، في كل مكان، صعود الاسلام والنزعات العسكرية والتطرف. لقد تبخر الحلفاء السابقون – وهم من كانوا يوما ما الأعداء المستحكمين. أما الاسلاميون، فان لديهم أهدافا أخرى أبعد مدى. انهم يرغبون في توطيد مشروعهم الاسلامي، ويعني ذلك توطيد سلطتهم حيثما استطاعوا، والامتناع عن اثارة حفيظة الغرب، وتجنب صدام خطر ومبكر مع اسرائيل. وفي اطار هذا المشروع، فان وجود دولة يهودية كان وسبظل أمرا لايمكن احتماله، لكنه ربما يبقى مثل ذلك الجزء من لغز أكبر، الجزء الذي لن يتم حله تماما أو العثور عليه الى الأبد.

 

 

لم يكن أبدا مطلب اقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، في قلب المشروع الاسلامي. فحماس، الفرع الفلسطيني للاخوان المسلمين، لديها مشروع أكبر، أقل اهتماما بالأرض، ولكنه كذلك غير قابل للتحقيق في المدى القريب. فبالرغم من لغة المواربة والتهرب التي تستخدمها حماس، وبصرف النظر عن تطورها، فانها لم تحد أبدا عن نظرتها الأصلية - الدولة اليهودية هي دولة غير مشروعة، وكامل أرض فلسطين التاريخية هي أرض اسلامية كلية. واذا كان توازن القوى الراهن في غير صالحك، فما عليك الا أن تنتظر، وأن تفعل ماتستطيع لتعديل التفاوت في ميزان القوى. وكل ماعدا ذلك، فهو مجرد تكتيك.

 

كانت المسألة الفلسطينية هي قضية الحركة القومية الفلسطينية. واعتبارا من أواخر الثمانينيات، فقد أصبح هدفها المعلن هو اقامة دولة ذات سيادة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. لقد جرى رفض صريح لكل البدائل، سواء كانت انتقالية أو مؤقتة، من قبل الحركات القومية الفلسطينية. أما خطة الاسلاميين فقد تبدو أكثر طموحا وضخامة، لكنها أكثر مرونة. بالنسبة الى الاسلاميين فان دولة ضئيلة مبتورة ومحاصرة باسرائيل، وتعتمد على نواياها الطيببة، وتستند الى اعترافها بها،  وتؤدي الى انهاء الصراع، هي دولة لاتستحق القتال من أجلها.

 

بوسعهم الحياة في اطارمجموعة من الترتيبات: معاهدة انتقالية، هدنة طويلة المدى، اتحاد كونفيدرالي محتمل للضفة الغربية مع الأردن، مع ارتباط غزة بمصر. كل ذلك سوف يساعد على دفع المشروع الاسلامي قدما في المجتمع الفلسطيني. كل ذلك سوف يسمح لحماس بالالتفات الى مشروعها الاجتماعي والثقافي والديني، وهو مطلبها الحقيقي. كل ذلك يسمح لحماس بأن تحافظ على الصراع مع اسرائيل، دون أن تكون مضطرة لشن هجوم. وهكذا يشعرون أنه لاشيء ينتهك عقيدة حماس الجوهرية. يمكنها أن تجعل هدفها النهائي ينتظر. فيوما ما، قد يأتي يوم فلسطين، قد يأتي يوم القدس. لكنه ليس الآن.

 

 

 في عصر الاسلام العربي، فقد تجد اسرائيل أن تصلب حماس المفترض، هو أكثر مرونة من اعتدال فتح الظاهري. تخشى اسرائيل اليقظة الاسلامية. لكن الضرر المباشر الأكبر، قد يصيب الحركة القومية الفلسطينية.  لم تعد هناك روح في مشروع الاستقلال - لقد استهلك المشروع نفسه في ارتباطه بالسياسة القديمة والقيادات المهترئة المزمنة. لم يعد لفتح ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية مكان في العالم الجديد. لم يعد الحل الذي يقوم على دولتين، بؤرة الاهتمام لأي أحد.  قد يلفظ أنفاسه الأخيرة لابسبب العنف ولا المستوطنات ولا نقص كفاءة الدور الأمريكي. ربما يموت بفعل اللامبالاة.

 

 

 

العصر الاسلامي، الذي ينهض من حيث توقفت الامبراطورية العثمانية، ومن حيث انتهى الفاصل القومي، هو أبعد مايكون عن أن يكون قدرا مقضيا. والى حد بعيد، فقد انتعش الاخوان المسلمون في المعارضة لأنهم ظلوا في اطار السرية، وأظهروا صبرا، ووطدوا نظام الطاعة داخليا . لقد راكموا تأثيرهم من خلال سنين من العمل الهادئ ومن النضال. وحالما يتنافس الاسلاميون على السلطة، فان الكثير من مميزاتهم سوف تضيع. ان عليهم أن يتحركوا في العلن لأن السياسة أكثر شفافية، عليهم أن يتواءموا سريعا بسبب من عجلة التغير السريعة، كما أن عليهم أن يجيدوا التعامل مع التنوع في صفوفهم لأن النظام أصبح أكثر تعددية.

 

 

الاسلاميون الذين يحكمون تونس عليهم أن يحددوا اختيارهم فيما يتعلق بوضع الاسلام في الدستور الجديد - اذا هم انحازوا الى صيغة أكثر اعتدالا، فسوف يغضبون السلفيين، ويفشلون في طمأنة غير الاسلاميين، ويربكون كثرة من أعضائهم. الاخوان المسلمون في مصر يتعرضون للهجوم من العلمانيين، لأنهم يقحمون الكثير من الدين في الحياة العامة، ومن السلفيين لأنهم لايفعلون ذلك بما يكفي. ينشق الأعضاء لكي يلتحقوا بصفوف جماعات أكثر اعتدالا في تعبيرها عن الاسلام، أو بصفوف جماعات أكثر تشددا. وتأكيد الاخوان المسلمين عل اقتصاد السوق الحر وعلى الطبقة المتوسطة، لايصادف ترحيبا لدى الجماهير المحرومة.

 

 

و بقدر ماتؤكد اللغة الجديدة للاسلاميين على الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والانتخابات، فانها تلقى استحسان الغرب، لكنها تواجه بالشكوك من الناقدين. ربما كانت هذه مجرد كلمات، لكن الكلمات يمكن أن يكون لها شأن - تكتسب الكلمات حياة لنفسها، تدفع الى تغيير السياسات، وتجعل من الصعب خرقها والتراجع عنها. فاذا بلغنا هذه النقطة، فان الاخوان المسلمين يمكنهم أن يصبحوا ذلك الحزب الذي يزعمون، وعندئذ - فماذا يتبقى لديهم من اسلامهم؟  أو أنهم يظلون تلك الحركة التي كانوها، واذن - فما الذي يبقى لهم من براجماتيتهم؟ الاخوان المسلمون الذين كانوا تاريخيا تنظيما عابرا للقوميات، ومنظما بصرامة، لم يعودوا على رأي رجل واحد في داخل البلد الواحد، ولم يعودوا كذلك في مختلف البلدان. فكما تقتضي السلطة، فان لكل فرع من فروعهم أولوياته السياسية واهتماماته المختلفة، والمتنافسة في أغلب الأحيان.

 

يواجه الاسلاميون كذلك معضلة السياسة الخارجية. فالارادة المصرية الجديدة المصممة التي تهدف الى دبلوماسية أكثر استقلالا، يمكنها أن تزج بهم في خلاف مع الغرب. وقرارهم الظاهر بأن يعلقوا مواقفهم المضادة للغرب والمضادة لاسرائيل يؤدي الى اغضاب الرأي العام في مصر. كثرة من المصريين يتوقون الى ماهو أكثر من مجرد مبارك مع ديكور من الآيات القرآنية.  

                                        

 ازدهر الاسلاميون في المعارضة، لأنهم كان بوسعهم أن ينحوا باللائمة على آخرين - ولسوف يعانون في السلطة لأنهم سيكونون موضع انتقاد الآخرين. فاذا ماقاموا بتمويه برنامجهم في الداخل وفي الخارج، فانهم يخاطرون جديا بخسارة أعضائهم وأنصارهم - فاذا مااتبعوا خطتهم بلا تمويه، فلسوف يثيرون غضب غير الاسلاميين وغضب الغرب. واذا ماقاموا بتأجيل النضال ضد اسرائيل، فسوف تبدو خطبهم غير
صادقة مع سياستهم - فاذا ماقاموا بشن النضال، فسوف تبدو سياستهم خطرة في عيون حلفائهم الجدد في الغرب. اذا ماقالوا أن اعتدالهم هو مجرد اعتدال تاكتيكي، فانهم يفضحون أنفسهم - فاذا تلفعوا بالصمت، فسوف يتسببون في بلبلة القاعدة. ليس أمامهم سوى كثرة هائلة من التناقضات، وعليهم أن يتعاملوا معها في نفس الوقت، كما هو الحال في أوضاع التوازن في الألعاب الأوليمبية. ان قوة الاسلام السياسي تنبع أساسا من عدم ممارسته. وربما تنذر نجاحاته الجديدة، بأنها عشية سقوطه. كم كانت الحياة بسيطة، على الجانب الآخر!

 

في وسط الفوضى والحيرة، فان الاسلاميين وحدهم قد تقدموا برؤية أصيلة ومألوفة للمستقبل. ربما يفشلون، أو يتعثرون، فمن ذا الذي سوف يلتقط الراية؟ القوى الليبرالية ذات بنية ضعيفة، وتأيييد شعبي ضئيل، وليس لها أي وزن تنظيمي على وجه التقريب. بقايا النظام القديم، يعرفون ألاعيب السلطة، لكنهم يبدون مستنزفين ومرهقين. اذا انتشرت الاضطرابات، وتعمقت الضغوط الاقتصادية، فيمكنهم أن يفيدوا من موجة من موجات الحنين الى زمنهم. لكن فرصتهم ضئيلة، فليس لديهم سوى حجة يتيمة، هي أن الأحوال كانت سيئة، أما الآن فهي أسوأ.   

 

يتبقى اذن تشكيلة من القوميين، والمناهضين للامبريالية، ويساريين من الطراز القديم، وناصريين. ايديولوجيتهم كانت الأيديولوجية الوحيدة المشروعة في العالم العربي، وقد استلهمت من اولئك الذين قاتلوا الكولونيالية، وأولئك الذين حلوا محل السلطات الكولونيالية. لقد استلهم المتظاهرون والمحتجون خلال الشهور الماضية، بدون أن يعرفوا، وان بوضوح، أفكارا شبيهة كذلك، حين تحدثوا عن الكرامة والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وبهذا الشكل فقد كانوا يقتبسون من نفس القاموس الأيديولوجي الذي كان يستخدمه أولئك الذين أطاحوا بهم مؤخرا.

 

هذه النظرة غير الاسلامية، و"التقدمية"، لها جذور، وجاذبية، وجنود – انها تفتقر الى التنظيم والى الموارد، وقد تضررت من هذا القدر الهائل من التلطيخ والافساد على أيدي أجيال من الذين حكموا باسمها. هل يمكنها أن تعيد خلق نفسها؟ واذا كان الاخوان المسلمون يحطون من قدر المشاعر القومية للشعب، اذا ماكانوا ينكرون تطلعات الناس الى العدالة الاجتماعية، واذا ماعجزوا عن ادارة الحكم بكفاءة، فهنا قد تلوح ثغرة. ويمكن للرؤية العالمية، الأكثر قومية والأكثر تقدمية، أن تعلن عودتها.

ينتشر أحد الفيديوهات من يد الى يد . يظهر فيه جمال عبد الناصر وهو يضحك الجمهور بقصة لقائه مع مرشد الاخوان المسلمين في ذلك الوقت، وقد سأله المرشد أن يفرض الحجاب على النساء. فأجابه الزعيم
المصري: هل ترتدي ابنتك حجابا؟ كلا. اذا لم تستطع أن تتحكم فيها، فكيف تتوقع مني أن أتحكم في عشرات الملايين من النساء المصريات؟ ضحك عبد الناصر، وضحكت معه الجموع.  كان ذلك في أوائل الخمسينيات، منذ أكثر من نصف قرن. يشعر المرء بالأسى أمام خفة الظل هذه، وازاء هذا التبجح. لم يتحرك التاريخ الى الأمام.

 

هل كان القرن الماضي انحرافا شاذا عن مسار اسلامي فطري للعالم العربي؟ وهل يكون الميلاد الاسلامي الجديد الذي نشهده اليوم، ردة شاذة عابرة، الى ماض انتهى زمنه منذ وقت طويل؟ أيها هو الطريق الطبيعي، وأيها هو الخروج عن الطريق؟

  

 
 

هذه ترجمة الى اللغة العربية ، للورقة المعنونة "ماهذه بثورة"، لأستاذي العلوم السياسية: حسين أغا، وروبرت ماللي، والمنشورة في مجلة نيويورك للكتب بتاريخ 8 نوفمبر 2012. وقد قام بالترجمة الى العربية: أحمد صادق.

النص الآصلي بالانجليزية على الرابط التالي:

http://www.nybooks.com/articles/archives/2012/nov/08/not-revolution/