مارس 01، 2011

الأقلام المرتعشة والأستاذ سلامة



من أهداف النظام البوليسي الذي حكم مصر بلا انقطاع منذ حريق القاهرة في 1952، أن يحكم قبضة كل نظم الحكم التي توالت منذ ذلك الزمن على مهنة وصناعة الصحافة وعلى كل أشكال ومؤسسات التعبير والاتصال الجماهيري السياسي والفكري والفني والعلمي والديني: الاذاعة ـ التلفزيون ـ التأليف والنشر ـ السينما ـ المسرح ـ الفنون كلها ـ الأزهر ـ الكنيسة ـ دور العبادة ـ الجامعات ومراكز البحث ـ الأحزاب ـ البرلمان ـ النقابات ـ الاتحادات والجمعيات المدنية ـ التظاهر ـ الاضراب.
استخدم النظام البوليسي في مصر كل الوسائل الشريرة التي عرفها العالم لتحقيق هدف السيطرة الشاملة على كل وسائل ومؤسسات التعبير والاتصال: 1ـ مجموعة هائلة من أسوا القوانين والتشريعات المعادية للحرية في العالم 2ـ تحكم جهاز أمن الدولة البشع في منح ومنع جواز المرور لكل مصري ينشط في هذه المجالات، بما في ذلك استخدام التزوير على أوسع نطاق 3 ـ التأميم وتحول الملكية لتكون ملكية النظام البوليسي 4 ـ فتح سبل النهب من مال الشعب بلا حساب لمن يوالي البوليس والنظام البوليسي 5 ـ الاغراء والتآمر والقهر والضغط على كل مصري ينشط في هذه المجالات لكي يضعف ويكون مواليا صريحا للنظام البوليسي، أو أن عليه أن يواجه العقاب من كل صنف: ضياع حقوقه وما يتناسب مع كفاءته، الاستبعاد، الفصل، التشريد، تلفيق القضايا والاعتقال والتعذيب والسجن، التشهير، التهديد، الخطف، تسليمه لمستشفى الأمراض العقلية، قيام عناصر مجرمة تابعة للبوليس باهانته وضربه علنا.. الخ الى أن يصيبه اليأس أو يتعلم الصمت أو يتعلم لغة العبيد التي يمكن أن ترضي النظام البوليسي وأن يخضع للتوجيهات التي تتفق مع استقرار النظام البوليسي، أو أن يترك البلاد كلها.
عبر نحو 60 سنة متواصلة من حكم الدولة البوليسية في مصر، نجحت هذه السياسة الشيطانية في افساد وتسميم آبار الثقافة والسياسة، الفكر والدين، الفن والعلم، وأنتجت جيشا من عملاء النظام البوليسي، وفيالق من اليائسين والمرتعدين، المشوهين ودعاة الاستقرار بحسن نية: حين يدعون الى الاستقرار والعودة الى مايسمونه الحياة الطبيعية فهم انما يدعون الى استقرار النظام البوليسي وحياة الذل والهوان والعبودية التي اعتادوها، وعودوا الشعب عليها.
أبواق النظام البوليسي في الصحافة والتليفزيون والاذاعات يحذون حذو عمر سليمان وأحمد شفيق وبعض أعضاء المجلس العسكري وما جاء ببعض بياناته ويدعون الى الاستقرار والعودة الى العمل والحياة العادية.  هؤلاء السادة انما هم دعاة الاستقرار في اسطبلات العبيد التي خلقها النظام البوليسي في طول مصر وعرضها. والعودة الى الحياة العادية هي دعوة للعودة الى فوضى وفساد الحياة اليومية في مصر والتي ليس لها مثيل، والتي صنعها هذا النظام الفاسد.
حين يتحدث رجال النظام عن العمل والانتاج يأخذنا العجب من مدى صفاقتهم: هل جعلوا من مصر يوما مجتمعا عاملا ومنتجا؟ حين يقذفون خارج العمل بأكثر من 10 ملايين مصري في بطالة سافرة، ويحتفظون بجهاز دولة من أكثر من 6 ملايين موظف، يتقاضون في قمته المليارات كل شهر، بينما يعمل باقي موظفي الجهاز في استكمال دخولهم الرثة عن طريق الرشاوي، وهم في الواقع صورة من البطالة المقنعة، وحين يقارب عدد العاملين في وزارة البوليس مليونين، وظيفتهم أن يقتلوا الشعب لمدة 48 ساعة ثم يهربون الى أن يأتي الجيش. ماهو الانتاج الذي توقف؟مانعرفه هو أن ملايين الفلاحين المنتجين مازالوا يزرعون ماتبقى من أرض زراعية. ولم يقل لنا هؤلاء السادة اذا ما الذى توقف فيما يسمونه عجلة الانتاج؟ وهل كانت تعمل وتدور وتنتج أصلا؟ ماكان يعمل وربما توقف مؤقتا هو عجلة العمولات والمضاربات والنهب والسلب، وبيع أرض مصر لعصابات النظام، والقروض، وبيع مالايباع مما كان القطاع العام، و البورصة. حسن أن توقف كل هذا.
الثورة تريد أن تبني في مصر مجتمعا عاملا ومنتجا حقا، حرا ووطنيا، يعمل لخير الشعب كله. ولكي تبني الثورة هذا المجتمع لابد أن تزيل مجتمع الطفيليات والعمولات والفساد والقهر البوليسي. وسائل الثورة لتحقيق ذلك هي سياسة الشارع المباشرة، هي الحشد الجماهيري والمظاهرات والاضرابات وحتى الاضراب والعصيان المدني العام اذا اقتضى انتصار الثورة ذلك. وسائل الثورة في ذلك هي أعمال الدعاية والتثقيف لتجذب الملايين المغيبة المقهورة الى مجرى الثورة والسياسة الوطنية، الى مجرى النضال من أجل الحرية والكرامة الانسانية.  وسائل الثورة في ذلك أن تنظم نفسها، أن ينظم الشعب نفسه ويتمرس بالثورة في كل أشكال التنظيم الجماهيرية الجديدة الحرة، التنظيمات السياسية والنقابية والفئوية والمحلية وكافة التنظيمات المدنية، أن يتولى الشعب أموره بنفسه، وأن يحل أجهزة القمع البوليسي، وأن يطرد الفاسدين من أهل المال والأعمال، من أهل السياسة، من أهل الصحافة وأجهزة الاعلام، من المحافظين الفاسدين وموظفي الدولة والحكم المحلي الفاسدين، من قادة النقابات والاتحادات العمالية والنقابات الأخرى التي بنيت تحت رعاية مباحث أمن الدولة.  الشعب يعرف كل هؤلاء وغيرهم جيدا. والثورة تعني أن يتمكن الشعب من ممارسة حقه المشروع في اقصائهم واستبدالهم برجال ونساء أحرارا ووطنيين ومنتخبين من الشعب.
الأستاذ سلامة أحمد سلامة آثر أن يفاجئنا صباح اليوم بجملة من الأفكار التي تبدو خارج السياق تماما في مقالته بالشروق تحت عنوان "بعد شهر من الثورة". فهو يرى أن " روح الثورة ومطالبها ومكاسبها لن يتحقق باستمرار الدعوة للتظاهر والاضراب عن العمل"  وأنه "لابد أن تعود عجلة الإنتاج فى المصانع والإدارات والمنشآت" ثم يقول "أطاحت الثورة بعدد لا بأس به من رءوس الأفاعى وبؤر الفساد التى تغلغلت فى نسيج الدولة وسممت دماء الشعب." الا أنه يغضب فجأة ويقول "ولم يعد من الممكن أن يظل الحديث عن الماضى والضباب الذى يحيط به هو شغلنا الشاغل. ولا أن يرتفع سقف المطالب إلى حدود العشوائية والتضارب وطلب المستحيلات!" ويستمر في الدعوة الى عودة الأمور الى وضعها الطبيعي، ويؤيد فكرة البرادعي عن تشكيل مجلس يضم مدنيين ويرأسه عسكري (و ان لم يكن هذا بالضبط ماطالب به البرادعي منذ وقت مبكر) ويذكر مسألة البدء بالانتخابات البرلمانية أم بالرئاسية، ويتركها دون أن نعرف رأيه، وينصح المجلس العسكري بعدد من الاجراءات التي يمكن أن تحقق "الهدوء المنشود" ويعترف بالمخاوف من انتصار قوى غير ديمقراطية في أي انتخابات مقبلة والمخاوف من عجز ماأسماه الثورة الشبابية عن تشكيل حزب سياسي في المدة القصيرة التي تتيحها خطة المجلس العسكري الخ
وفي مقاله الاحتفالي بالثورة كان يقول في يوم 14 فبراير "أن روح الشباب قد نفخت فى الشعب المصرى بدوره روحا جديدة. وأخرجت من أعماقه مشاعر كبرياء كانت قد انطفأت، وقيما كانت قد ضاعت، وأحاسيس بالعزة والكرامة كانت قد تلاشت، وإصرارا على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو مراوغة.
يمكن القول إذن إن مصر توشك أن تنضم إلى ركب الشعوب المتقدمة، وأن تحقق ما عجزت عن تحقيقه طوال ثلاثة عقود. وقد بدا واضحا أن تصميم الشباب على التغيير لا يقتصر على إسقاط الرئيس مبارك، ولكن أيضا على إلغاء نظام حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والحكم بالقوانين الاستثنائية والطوارئ، وتزوير الانتخابات، وإهدار ثروات البلاد لصالح قلة من رجال الأعمال الفاسدين، وتوظيف البرلمان لإضفاء شرعية مشبوهة على النظام. ولا يوجد شك فى أن القوات المسلحة التى عهد إليها بإدارة البلاد فى الفترة الانتقالية الراهنة تدرك مطالب الشعب وتنحاز إليها وتعمل على تحقيقها!"
وكان قد رشق عصابة صحفيي واعلاميي مبارك الذين تحولوا الى تأييد الثورة بمجرد طرد الديكتاتور بمقطع كبير من حراب صلاح عبد الصبور الشعرية ووصفهم بنفس أوصاف عبد الصبور "كهان الكلمات الكتبة" وانتهى في هذا المقال بنعي الصحافة المملوكة للدولة "إن هذه التجربة تجعلنا نعترف بأن سقف الحرية للصحف المملوكة للدولة.. يظل محكوما بما يفرضه النظام من رؤى وسياسات، وليس بما تقتضيه مبادئ الحرية الإعلامية وحق التعبير والالتزام بالمهنية والموضوعية."
 انتاب الاضطراب موقف الأستاذ سلامة من الثورة. فخلال بضعة أسابيع فحسب، تحول موقفه من تفهم حماسي  "للاصرار على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو مراوغة" الى داعية للتهدئة والهدوء والعودة الى العمل وعودة الأمور الى وضعها الطبيعي. ومن كاتب يفهم "أن تصميم الشباب على التغيير لايقتصر على اسقاط الرئيس مبارك" الى رجل فرغ صبره من الحديث عن الماضي (الماضي!) لمدة اسبوعين فحسب بعد رحيل السفاح الى شرم الشيخ. ولم يعد يطيق تطور المطالب وتحولها الى ما أسماه "العشوائية والتضارب وطلب المستحيلات". وأصبح أكثرتذمرا من "الدعوة الى التظاهر والاضراب عن العمل" فهي قد أصبحت في رأيه تتعارض مع "روح الثورة ومطالبها ومكاسبها". وبكلمة: أصبح الآستاذ منزعجا من الثورة. وعلينا أن نأسف اذ نبلغه أن الثورة مضطرة الى أن تزيده انزعاجا. فما يسميه "الماضي" انما هو كامل نظام النهب والخراب الذي أقامه مبارك على حراب البوليس و مباخر كهان الكلمات من الكتبة والمذيعين وغابة التشريعات القاتلة للحريات. من يقاوم كل هذا الارث والواقع الأسود؟ وكيف؟ في نفس يوم نشرمقال الأستاذ كان النائب العام يمنع السفاح وأسرته من السفر، ويتحفظ على ممتلكاتهم. خطوة جديدة تستكمل الرحيل عن قصر الرئاسة. هل كان ذلك يحدث دون نضال الشعب واستمرار الثورة؟ وفي نفس الليلة التي كان الأستاذ يكتب فيها مقاله، كان الشعب التونسي الثائر المصمم على التغيير الكامل للنظام دون "مساومة أو مراوغة" يسقط محمد الغنوشي ووزارته. ان المظاهرات والاضرابات هي أساليب نضال أساسية، يجب على الثورة أن تجيد استخدامها على الدوام في معركتها التاريخية مع أعدائها. أما مطالب الثورة وأهدافها التكتيكية والاستراتيجية فهي على العكس، تزداد وضوحا وانسجاما وتماسكا يوما بعد يوم. وما كان يبدو مستحيلا قد حدث: ثورة الشعب المصري نفسها، وبالكيفية التي جرت وتجري بها، واقتلاعها لمن سيكون آخر الطغاة على أرض مصر والى آخر الزمان. الثورة يجب أن تمتد وأن تحرر كل شبر وكل انسان على أرض مصر. لقد حققت ماكان يبدو مستحيلا، وتمضي في طريقها لبناء مصر الحديثة، كائنا جميلا أبهى مايكون الجمال، ومستحيلا!  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق