مارس 25، 2011

السؤال الأريب، للدكتور وحيد


السؤال الأريب، للدكتور وحيد
كتب الدكتور وحيد عبد المجيد مقالا في عدد 25 مارس 2011 للمصري اليوم، عنوانه: "هل كان الاستفتاء ضروريا؟" والدكتور وحيد يحمل على كتفيه واحدا من أنشط الأدمغة السياسية التي أفلتت من "تجريف الحياة السياسية" حسب تعبير الأستاذ هيكل.
وفي الواقع فانني أستطيع أن أعدد في مصر الراهنة أسماء مئات ممن يحملون رؤوسا سياسية ذات قيمة، على ا لرغم من العملية الاجرامية التي استهدفت الحريات ونجحت في تحقيق هدفها في قتل حيوية الحياة السياسية المصرية التي تساوت فيها نظم حكم عبد الناصر والسادات ومبارك.
السياسة لكي تكون حية وفاعلة في أي مجتمع فلابد أن تكون الحريات السياسية الأساسية مضمونة ومقدسة ومصونة بالدستور والقانون والممارسة الفعلية. هذه الحريات هي:  1 - حرية التفكير ( بما في ذلك حرية العلم والمعلومات وحرية الابداع وحرية النقد) 2 – حرية التعبير ( بما في ذلك حرية الكلام وحرية كافة أدوات ووسائل التعبير والاتصال كالصحافة ووسائل الاتصال الجماهيرية كالتليفزيون والاذاعة وحرية المطبوعات والنشر وحرية الانترنت والحريات الجماعية كحرية الاجتماع وحرية التظاهر والاضراب وحرية التصويت) 3 – حرية التنظيم ( بما في ذلك حرية تأسيس ونشاط وحركة الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات ومراكز الابحاث والدراسات وحرية الجامعات في تنظيم نفسها وضمان حرية مؤسسات لها طبيعة خاصة كالأزهر والكنيسة والبرلمان والقضاء وهيئات الحكم المحلي)
يعرف المصريون كيف استخدم حكامهم وسائل لا مشروعة بلغت حد الوحشية والهمجية لتحطيم هذه الحريات وتحطيم الأحرار وتحطيم العقول الحرة وشطبها من حياة مصر. عبد الناصر، ذلك السياسي الوطني المصري الطموح، اعتقد أن حماية مشروعه الوطني تستلزم خنق هذه الحريات، فخنق الحريات والأحرار، حتى قتل مشروعه الوطني نفسه وحوله الى أنقاض حزينة. السادات، ذلك السياسي المغامر والمقامر واصل المهمة المشئومة لخنق الحريات لكي يمرر ويفرض سياسته التي أدت الى الاضرار البالغ بالمصلحة الوطنية المصرية. ومبارك، ذلك السياسي بالصدفة، والذي يحتل مكانه في التاريخ الطويل لحكام مصر بوصفه واحدا من أقل الحكام كفاءة ومن أقلهم نزاهة وأمانة، كان لابد له لحماية ضعفه والتستر على مخازيه وانعدام أمانته، أن يصل بالدولة البوليسية الى أبشع مراحل بطشها بالحريات.
كلهم خنقوا الحريات وفي النهاية تسلم البوليس والفاسدون والمرتزقة مفاتيح مصر. لقد تسببوا في اصابة جسم الوطن اصابة جسيمة، لكن الحرية لاتموت. ربما يموت الأحرار على أيدي البطش، لكن أفكارهم لاتموت. والحرية تقاوم أشد الطغيان مادامت هناك حياة ومادام هناك وطن ومادام هناك شعب.
 صوت الحرية والمقاومة لم يخرس في مصر: كيف ظهرت "كفاية" في شوارع القاهرة في عز ظلام مبارك؟ كيف لم يستطع الطغاة أبدا أن يخرسوا صوت محمد حسنين هيكل، رجلا وكهلا وشيخا، يقول مايراه من أجل بلاده، اختلفنا معه أم اتفقنا، فهو في كل الأحوال عقل مصري باهر مستنير متحضر؟ كيف ظهرت الأصوات الباسلة لمقاومة مبارك مع صحفيين وكتاب مثل علاء الأسواني و ابراهيم عيسى وعبد الحليم قنديل ومحمد أبو الغار و محمد سيد سعيد وعشرات المدونين؟ كيف سطرالأسواني حروف أدب المقاومة في رواية "شيكاجو"؟  وكيف أبدع يوسف شاهين ويسري نصرالله وخالد يوسف وداوود عبد السيد وغيرهم سينما المقاومة؟ كيف جاء الى بلاده من بعيد المواطن المصري محمد البرادعي، وهبط بالوادي، يبشر بالحرية القريبة، ويرفع راية أخرى لمقاومة الطاغية وحكمه، ينادي الشباب ويستمد منهم الأمل؟ ثم كيف نفذت ثورة ملائكة يناير من ذلك الثقب في جدار الطغيان: ثقب الانترنت والفيسبوك؟ الانترنت أداة حديثة للتعبير، لم يستوعبها الحاكم الهمجي وبوليسه، تدفقت من خلالها الافكار والآمال، عشرات فمئات فآلاف فمئات آلاف .. ثم .. ياالهي .. قفزوا من أمام شاشات الكومبيوتر كأطياف الملائكة الى حواري عشوائيات بولاق والمطرية والاسكندرية والسويس .. فاذا بالملايين تسد عين الشمس .. فاذا القيامة المصرية قامت! نعم .. فالثورة عيد الفقراء .. والثورة قاطرة التاريخ! ملايين الفقراء تصحوعلى السياسة وعلى نداء الوطن ونداء المستقبل. يصنعون من أنفسهم قاطرة تجر مصر وتعيدها الى مسار تاريخ الحضارة والكرامة. وحين أدرك الحكام الهمج أن الانترنت لم تكن عبثا، أغلقوها، فكانو كمن يغلق الباب على اصبعه. كان الشباب قد هجروا كومبيوتراتهم بالفعل، وذهبوا حيث الشعب.
أردت أن أقول، أن العقل السياسي في مصر، وخصوصا العقل المنتمي لثقافة الحرية، هو أحد كنوزها التي لم تفقدها. لقد قتلت الديكتاتورية حيوية الحياة السياسية في مصر لستة عقود كاملة، لكن عناصر هذه الحيوية السياسية، بل عناصر الحيوية والعافية المصرية الشاملة، هي اليوم أضخم بما لايقاس من حيويتها قبل حريق القاهرة. مصر تحتاج الى حرية التعبير وحرية التنظيم وبعضا من الوقت. ستستعيد مصر عافيتها وتنهض. فسلام عليك مصر يوم تبعثين، ويوم تنهضين.
وأعود الى الدكتور وحيد وسؤاله الأريب، والرياضة الذهنية التي قام بها ليخمن دوافع المجلس العسكري لجر مصرالى استفتاء لالزوم له. لقد افترض فكرة المؤامرة من قبل الجيش بغرض تمشيط الواقع السياسي بعد الثورة ثم استبعد هذا الافتراض. ثم افترض أن الجيش ربما كان يبغي "تجنب حدوث انقسام حاد على القواعد المنظمة للعملية الانتخابية وترتيباتها الاجرائية" ورأى وحيد أن هذا افتراض له وجاهته، لكنه لايكفي كبرهان لضرورة الاستفتاء، فمن وجهة نظر وحيد أنه كان من الأفضل اذا أن يكون الاستفتاء مرة واحدة على الاعلان الدستوري الجديد متضمنا قواعد الانتخابات واجراءتها الى جانب المواد الأخرى التي يشملها. لكن وحيد يعود ليفترض أن المجلس  العسكري لم يأخذ بالترتيب الأفضل – أى اجراء استفتاء مرة واحدة على الاعلان الدستوري الثاني في عمر المجلس -  لأنه افترض امكانية رفض الاعلان الدستوري وهذا يؤدي الى "ان رفض الإعلان الدستورى فى استفتاء عام عليه، لابد أن يطيل المرحلة الانتقالية التى يسعى القائمون عليها إلى تقصير أمدها. ولعل هذا هو ما جعل استفتاء غير ضرورى وجوبيا لديهم، ودفع إلى تفضيله بالرغم من أن استفتاء على الإعلان الدستورى فى مجمله هو الأفضل." لكن الدكتور وحيد لايقول لنا لماذا لم يفترض الجيش أن تأتي نتيجة الاستفتاء بالرفض لتعديلات لجنة البشري؟ ان مثل هذا الافتراض كان من شأنه وضع الجيش في نفس الموضع اذا ماتم رفض الاعلان الدستوري الثاني. الا اذا كان الجيش مطمئنا لنتيجة الاستفتاء على تعديلات البشري مسبقا، أو يرجح أنها ستكون بالقبول. فمن أين للجيش بهذا الاطمئنان أو الترجيح؟
تظل هذه الافتراضات ، فيما يبدو، خارج السياق الحقيقي للأمور. فما نلاحظه هو أن تفسير لجوء الجيش  الى عمل استفتاء لا لزوم له، هو نفسه مايفسر جملة من المواقف والقرارات وأحيانا اللاموقف التي نرى عليها المجلس العسكري منذ أسقط الشعب مبارك.
الجيش النظامي مؤسسة بيروقراطية في التنظيم والأداء، تقوم على الصرامة والطاعة والانضباط، وتمارس عملها وهي منعزلة في أماكن خاصة بها، وتميل الى المحافظة في التفكير. وقد تم استدعاء – نحن الذين استدعيناها - هذه المؤسسة دون توقع أو استعداد أو تجربة أو خبرة للتعامل مع وضع ملتهب بالغ التعقيد. مبارك طلب من الجيش أن يضرب الشعب، والشعب، وقد قامت قيامته ليطرد مبارك، طلب من الجيش أن يكون له سندا. وكانت الكلمة العليا كما رأينا "للوطنية المصرية"، فاصطف الجيش خلف الشعب، وأيد المطالب المشروعة للشعب، وسانده في طرد ميارك، وأدى التحية العسكرية لشهدائه.
قبل 25 يناير لم يكن الجيش من المطالبين بطرد مبارك، بل لم يكن في صفوفه من يتصور ذلك.  أما على جانب الشعب، فقد هناك كثيرون يطالبون بطرد مبارك، ويشتبكون معه ومع نظامه، ويحلمون بالثورة. وحين تدفقت سحب الملايين، أطلقت قذيفة جبارة عابرة للعصور، وسجلت القذيفة الجديدة تحت اسم: ارحل!. أتصور أن الجيش كان مأخوذا بالمشهد الرهيب لهذا الشعب الذي يعيد التعرف على ذاته كشعب كريم، وعلى ذاته كقوة لاتقهر، وعلى ذاته كصانع للتاريخ وللوطن، وعلى ذاته بوصفه أبا وأما للجيش. الجيش من صنع الشعب، خلق ويحيا من دماء الشعب ومن عرق الشعب. وهو أيضا من دموع الشعب وأحزانه، وهو من فرحة الشعب وانتصاره وفخره. انكسر الجيش، فأخذه الشعب المصري من ساعده، واعاد تعليمه وتربيته، ومنحه قوته وزاده ودمه واغنياته واشعاره وثقته في الرجال المصريين، ورسخ في ضميره من جديد كلمة سر مصر: "الوطنية المصرية"، ودفع به ليقتحم القناة، فاقتحمها.
لايمكن أن يظهر محمد برادعي من صفوف هذا الجيش، أويحط الرحال في معسكراته بعد طول سفر، ويدعوه الى الثورة على حاكم فاسد يدمر الوطن تحت ناظريه. والجيش لايمكنه أن يقدم لوطنه حركة كحركة "كفاية" أو "6ابريل". ولا جنرالا للقلم كعلاء الأسواني أو ابراهيم عيسى، ولا محاربا قديما مجربا كالأستاذ هيكل، ولا كليما لأرض مصر كجمال حمدان، ولا مؤرخا مجيدا لوطنه وقاضيا عادلا كطارق البشري، ولا صوتا لشمس الأصيل كأم كلثوم، ولا من يعيد الروح كتوفيق الحكيم، ولا سندبادا مصريا كحسين فوزي، ولا ينبوعا للثقافة كلويس عوض، ولا من حكى حكايات الوطن وكفاح طيبة كنجيب محفوظ، ولا من وضع اصبعه على سر أسرار الزمن والمادة كأحمد زويل، ولا من كتب اسم بلاده فوق القمر كفاروق الباز، ولا من يعرف النيل والصحراء ومكامن الثروة في مصر كما يعرفها رشدي سعيد، ولا من تدرك القانون والدستور ومقتضيات المرحلة وحاجات الشعب كما تدركها تهاني الجبالي، ولا من تكتب بمداد من عطر زهور البرتقال في حدائق بلادي كأهداف سويف، ولا من غنى بلادي كسيد درويش، ولا من نحت نهضة بلادي كمحمود مختار، ولا من اطلق العلم كالماء والهواء كطه حسين، ولا من جعل من القانون شريعة كعبد العزيز فهمي والسنهوري، ولا من جعل من أشعار مصر قبلة كشوقي وحافظ وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وأمل دنقل، ولا من أضاء قنديل أم هاشم، روح الوطن الحنون يحيى حقي، ولا عالما ثائرا وعلما للفقراء كعبد العظيم انيس، ولا مدافعا مجيدا عن حقوق العمال والشعب كنبيل الهلالي ... كل هؤلاء يظهرون في الشعب، ويقيمون الحضارة، ويبنون الجيوش على قيم الوطنية المصرية.
لو كتبت لملأت الأسماء وحدها كتبا. مصر الآن ياجيشنا مليئة بهؤلاء وابناء هؤلاء وأحفاد هؤلاء وتراث هؤلاء. واعادة بناء مصر من جديد، ووضع دستورها واقامة قضائها وبناء مجالس نظيفة لنواب الشعب والتشريع، هو مهمة الشعب ممثلا في أمثال هؤلاء الناس. فلماذا انفردتم بقرارات تأخذونها وحدكم؟ ولمذا تسببون هذا الارتباك للدكتور وحيد عبد المجيد؟
ان تفسيري البسيط لقرار مثل الاستفتاء الذي لا لزوم له، ومثل هذا الاصرار على استمرار أحمد شفيق ، والاصرار على استبقاء نائب أحمد شفيق الذي تجاوزه الزمن، وتلك الايضاحات الدستورية والقانونية التي سمعناها من اللواء ممدوح شاهين والتي نراها غير مناسبة ولا مقنعة، و دعم وزير الداخلية الجديد في اجراء ديكوري فارغ من المضمون مثل تغيير اسم جهاز أمن الدولة بوصفه التغيير الوحيد الذي عرفناه في أمر هذا الجهاز،  على حين أن الغاء هذا الجهاز هو مطلب الشعب باسره، واسألوا الناس في استفتاء لو أردتم، أما أهمية أن يكون هناك جهاز اضافي للأمن الوطني و وضع القانون والنظام الذي يخضع له، فهي مهمة أكبر من وزير الداخلية مهما حسنت نواياه، ولا يجب أساسا أن يكون مثل هذا الجهاز تابعا لوزارة الداخلية، وحادث مثل اعادة اعتقال شقيق الظواهري وبنفس الهمجية المعروفة منذ 60 سنة، ومجموعة حوادث تورط فيها بعض الأوغاد من أفراد القوات المسلحة، مثل فض اعتصام التحرير بالقوة الهمجية والذي تم الاعتذار عنه، والاعتداء على المتظاهرين أمام مجلس الوزراء لطرد أحمد شفيق، واقتحام حرم جامعة القاهرة لفض احتجاج سلمي للطلاب ضد عميد كلية تابع لأمن الدولة، وما نقل عن شهادة أحد الأساتذة من أن أحد الأوغاد برتبة ملازم قد اعتدى بالقول على الأساتذة قائلا "انتو بتوع 9 مارس، انتو مقبوض عليكو، وحنخليكو عبرة" واحتجزهم في عربة مدرعة وصادر أوراقهم وتليفوناتهم.  ومفهوم أن مثل هذا الوغد الصغير لا مفر من ان يوجد أمثاله في كل مكان، لكننا لانحب لجيشنا وسمعته وشرفه أن يحتفظ بأي أوغاد، وهنا أطالب بوضوح أن تتم محاكمة كل من اعتدى على أي مواطن سواء كان من المشتغلين بالسياسة أو من المكافحين من أجل تنظيف مصر أو المكافحين من أجل حقوقهم من العمال والموظفين وباقي الفئات، هؤلاء يجب محاكمتهم ونزع رتبهم وطردهم خارج القوات المسلحة. لايمكن السماح لأي شخص يهين أو يرهب أويعتدي على الشعب أن يظل في القوات المسلحة. والشرطة العسكرية لها سمعة سيئة منذ ماقبل الثورة، وهي توصم باستخدام العنف والارهاب وعدم احترام القانون، ولابد من اعادة النظر في هذا الجهاز وتنقيته ورقابة أعماله.
يضاف الى هذا مسألة الاستجابة لنزوات مبارك ولما يلائمه ويريحه بالسماح له بالاقامة في شرم الشيخ. كل هذا لايلائم القانون وأحكامه ولا يلائم مشاعر الناس فيما يتعلق برجل تورط في جرائم قتل ضد الشعب وجرائم فساد وتربح وما سيظهر قريبا من جرائم أخرى. مبارك وأسرته يجب أن يعيشوا في مكان خاص في بقعة يكون للجيش المصري سيادة كاملة عليها.
ثم مسألة عملاء أمن الدولة في التليفزيون والصحافة والجامعة ... الخ ...  فقد سمعنا عجبا من المجلس العسكري ومن السيد يحيى الجمل. ففي برنامج تليفزيوني ضم ثلاثة من أعضاء المجلس العسكري صرحوا بأنهم يعرفون أنفسهم وأنهم يفعلون خيرا ان استقالوا من أعمالهم من تلقاء أنفسهم! والسيد الجمل تحدث بلهجة المأساة وبروح قديس من قديسي المسرح يقدس القانون وذكر أن هؤلاء لو فصلناهم للجأوا الى القضاء وحصلوا على حكم بالعودة الى أعمالهم!. رحم الله أنور السادات الذي كان يأمر بفصل اساتذة الجامعة المعارضين لحكمه، وينقل الصحفيين ليعملوا في محلات الأحذية. أليست هناك يامن تحترمون القانون الى هذا الحد بنود في لوائح تنظيم العمل بهذه المنشئات تسمح بتحويل هؤلاء العملاء جميعا للتحقيقات ومنحهم أجازة مفتوحة وابعادهم عن أعيننا وآذاننا؟
أود أن أقول للدكتور وحيد أن السبب في كل هذه الظواهر الغريبة هو الارتباك. ارتباك المجلس العسكري، وهو يواجه وضعا بالغ التعقيد لم يكن مستعدا له، والنزوع المحافظ والحذر والبنية البيروقراطية للمؤسسة. فالمجلس العسكري لم يتشاور مع أحد في مصر قدر التشاور الواجب، أو هو تشاور مع ناصحين أردياء، وتبنى بشكل تلقائي بيروقراطي خطة مبارك قبل رحيله في اجراء تعديلات على بعض مواد الدستور الساقط المهلهل، وهو ماحاول مبارك وعمر سليمان ايهام الشعب بأن هذه مطالبه وأنه قد استجيب لها.
الفارق أن مبارك لم يكن صادقا وكان يخدع الشعب على طول الخط، وكذلك كان شفيق، أما المجلس العسكري فقد وجد نفسه اتوماتيكيا يتبنى خطة كانت خطة أراد بها مبارك الخداع، بينما المجلس العسكري صادق في موقفه. خطة الخداع لاتصلح أن تكون خطة للموقف الصادق للجيش، وبدأت عيوب هذه الخطة تظهر تباعا، ومرة أخرى تتداخل عوامل البيروقراطية والحذر والناصحين الأردياء لتحد من القدرة التكتيكية على اعتماد موقف مرن في مواجهة تكشف حقائق جديدة، فيصر المجلس العسكري على عمل استفتاء لالزوم له، استغلته القوى المعادية لثقافة الحرية والعقل، وقوى دفع الناس الى اليأس من مشوار الثورة، والتلاعب بالعوطف الانسانية في العودة الى الحياة الطبيعية، استغلته كلها للوصول لنتيجة للاستفتاء التي أظهرت تماسك 4 ملايين من المصريين في موقفهم المعارض لخطة مبارك التي حاول المجلس العسكري اصلاحها دون جدوى، لأنها ببساطة، غير قابلة للحياة.
هنا تغير الموقف. وأعلن عن سقوط الدستور الساقط، وعن اعتزام المجلس العسكري اصدار اعلان دستوري ثان يكون يمثابة دستور مؤقت. وما نرى أنه أمر ضروري الآن هو أن يقوم المجلس العسكري من جهته باستطلاع آراء كافة العناصر والقوى المؤهلة والفاعلة قبل أن يصدر الاعلان الدستوري. فلم يكن واردا لدى المتحدثين باسم المجلس العسكري ولا لجنة التعديلات أن الأمور ستؤول الى ماآلت اليه الآن، وانما ساد الارتباك الذي آن له أن ينتهي.
بقيت ملاحظات أخيرة، وهي أننا لم نر حتى الآن بيانا رسميا تفصيليا بنتائج الاستفتاء، وأن مشاركة 44 في المائة من أصحاب الحق في التصويت هي نسبة ضعيفة في زمن ثورة، وأنه ماكان يجب أن يقدم الجيش على تنظيم استفتاء قبل أن ينظم امكانية التصويت لكل المصريين خارج مصر، وقد أبدى السيد ساويرس استعداده للمساهمة في التجهيزات الالكترونية الدقيقة والمضمونة للتصويت.
وعلى أي حال فعلينا أن ننجح في ايجاد مستوى أعلى للحوار والتفاهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي دفعت به الأقدار ليقوم بهذا الدور الكبير والصعب في تاريخ وطنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق