يونيو 19، 2011

في ذكرى محامي الشعب


تعليق على مقال الدكتور أحمد الخميسي في جريدة البديل
http://bit.ly/lMloxQ

لأسبوعين متتاليين يحدثنا الدكتور الخميسي بعذوبة عن قمر السبعينيات وعن سحابة العدل، فكأنما يدفعه الأديب فيه دفعا الى التحليق بنا نحو مدارج الأفلاك، ومنابع النور والبطولة في حياتنا المصرية

فحديثه الجميل الصافي عن الأحمدين، هو حديث عن نجمين مصريين
كان أحمد عبد الله، وأحمد نبيل الهلالي نجمين ولدا في هذه المجرة المصرية، وأشعا وومضا، ثم غربا في الأفق

الهلالي كان صعيديا صلبا كالجرانيت، رهيفا كصوفي، مهذبا كما لم يكن أحد، رقيقا وحميما وأستاذا ومناضلا وثائرا ومثقفا ومصريا تماما

في ٢٩ ديسمبر ١٩٧٢، أرسل أنور السادات مباحث أمن دولته لتقبض على الحركة الوطنية المصرية في مصر كلها، وحشروا كل المعتقلين في معتقل القلعة، وعند ضوء الفجر وجد طالب الطب حينذاك محمد الدردير أن من واجبه أن يكسر قيود الارهاب البوليسي، وأن يدشن حملة للتواصل مع المعتقلين الذين أودعوا في الزنازين الانفرادية الغليظة، فصاح من خلف قضبان الشباك الوحيد العالي في الزنزانة ، يعرف بنفسه، وبرقم زنزانته، ويناشد من يسمعونه أن يعرفوا بأنفسهم، وبرقم زنزانتهم، وأن يصروا أمام النيابة على تسجيل وقائع التعذيب، والاحتجاج على الاعتقال، ورفض التحقيق في غير وجود محام، ويبلغهم ببساطة أن يسجلوا جميعا في النيابة أن محاميهم هو الأستاذ أحمد نبيل الهلالي

وعبر هذا الاتصال الصوتي، حيث استعاد الصوت حريته، والانسان حبيس،  ورغم أنوف الحراس والجلادين، أخذ سكان الزنازين يعرفون أنفسهم، والدرديري يعيد مايصله من معلومات بصوته المبحوح القوي

كان معظم المعتقلين في هذه اللحظة من طلاب الجامعات، من الاسكندرية وحتى أسوان، كما كان هناك جمع هائل من الوطنيين، من المحامين والصحفيين والكتاب والشعراء والمعلمين وأساتذة الجامعات والمهنيين والعمال والفلاحين والعاطلين  
وكوكبة من نساء مصر وبناتها بل وأطفالها  

ووصل الدرديري الى الزنزانة رقم ٤٢، وجاءه، وجاءنا جميعا صوت مهذب رخيم يقول: أنا أحمد نبيل الهلالي المحامي

وكرر بعده الدرديري بشكل آلي: زنزانة ٤٢، الطالب أحمد نبيل الهلالي المحامي! وكانت عاصفة من الضحكات. الهلالي بيننا، وتدفقت على الفور أمواج المشاعر والأفكار والتحليلات

وفي ظلام زنزانة أخرى كان الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي أجاب على الفور، مندهشا ومنبئا: قوقة المجنون ابو برقوقة، راسه ناشفه، وفيها مناطق موبوءة. ياقوقة يامجنووووون

هكذا بدا السادات للشاعر وللجميع، في ذلك الصباح ،حاكما مجنونا مخرفا، عبثا يضع مصر كلها في المعتقل

كانت هجمة اعتقالات السادات في شتاء ١٩٧٢ - ١٩٧٣، فرصة للشباب حينذاك أن يلتقوا بالأسطورة الثورية، وبالنموذج الانساني الفذ  الذى كانه الأستاذ أحمد نبيل الهلالي

وحكى لنا الأستاذ حياته مع مصر ومع الثورة ومع الكادحين

الأستاذ يحكي بروعة، بهدوء، وبصدق

صدق الهلالي ونظافته تزرع المكان حدائق  اينما حل

حكى تفاصيل قضية الشيوعيين التي اتهم فيها في ١٩٥٩، والتي دفع بها عبد الناصر لمحكمة عسكرية فاسدة ظالمة، وماكان بعدها من هذا الفاصل الدامي المظلم في تاريخ مصر، حين تعرض المعتقلون والمحكومون الى تعذيب وحشي في سجون عبد الناصر، حيث صمد الهلالي ورفاقه صمودهم البطولي أمام جلاديهم الفجرة في سجن أوردي أبو زعبل، وغيره من السجون

التعذيب الذي أدخلته الدولة البوليسية الناصرية الى مصر لم يكن له شبيه في التاريخ المصري الحديث، منذ عرفنا وحشية جيش الحملة الفرنسية مع المصريين، وجريمتهم مع سليمان الحلبي الذي اغتال كليبر قائد جيوشهم في مصر بعد نابليون

كان التعذيب يستهدف تحطيم ارادة السجين وكرامته وشخصيته، تحطيمه تماما، ودفعه الى التخلي عن معتقداته، والتعاون الرخيص مع جهاز أمن الدولة، والتحول الى عميل من عملائهم ضد رفاقه وضد شعبه 

الهلالي يحكي هذه الكوابيس بهدوء، بابتسامة دائمة على وجهه، ويمر على ملامحه النبيلة الم سريع وهو يتذكر شهداءه، يتوقف لثوان، يغيب في احترامه لذكراهم، ويواصل، ليركز على الحلم الكبير بوطن حر عادل مزدهر، خيره لكل المصريين. وليركز على أن المناضلين من أجل الشعب ومن أجل الحرية قضيتهم عادلة ومنتصره، وأن جلاديهم أصحاب قضية خاسرة وظالمة

ويقدم الهلالي تلك الخبرات العظيمة لوسائل صمود المناضلين ضد التعذيب والقهر، حتى تنتصر ارادتهم على ارادة جلاديهم. الأستاذ مدرسة حية في خبرات النضال داخل السجون

كان الأستاذ كذلك مناضلا نقابيا بارزا، وعضوا منتخبا دائما في مجلس نقابة المحامين المصريين

وجمعته قصة حب أسطوري رائعة مع رفيقة كفاحه وعمره السيدة فاطمة زكي، فكان عاشقا رقيقا يعرف قدر المرأة في الحياة، وفي اتحادها الاختياري الحر المتحضر مع الرجل

الهلالي جمع في شخصه أسمى مافي روح جميع العقائد، فهو آمن بصدق وعمق طول حياته أن الشيوعية هي رسالة حضارة لانقاذ الانسانية، وكنت ترى فيه ملامح المهاتما غاندي وصفاته، وتحسه صوفيا مسلما بلغ اعلى مراتب العشق الالهي، ومسيحا متجسدا يفدي وينقذ ويبشر، وراهبا بوذيا ورعا حكيما يسعى في طرقات مصر ومحاكمها وسجونها.

وله تفاؤل أبدي ويقين لايهتز في مستقبل مضيء للانسانية ولبلاده

وقال كلمته الف مرة قبل أن يغادر دنيانا ضد مبارك وعصره وضد توريث الحكم، وطلب من حشد اجتمع لتكريمه مرة أن يكرموا أحمد عرابي بدلا منه، قائلا أن عرابي هو أول مصري في العصر الحديث يعلن أن المصريين لايورثون بعد اليوم.

حين قابلته أول مرة كان قد تجاوز الأربعين، وكنت في العشرين، وعلى الرغم من ذلك، شعرت أنه ولدي، وأدركت أن ذلك الشعور هو استجابتي لطوفان البراءة الذي امتلكه الهلالي طول حياته

كان قدرنا أن نعيش في بلادنا عصورا ملعونة مظلمة ظالمة، لكن وجود أحمد نبيل الهلالي يفسر سر جمال الحياة، رغم كل ذلك

شكرا أحمد الخميسي أن منحتنا سعادة ذكرى الهلالي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق